?

قصّة النبي يوسف

مدخل إلى قصّة النبي يوسف

يحتلّ النبي يوسف مكانة كبيرة في التوراة وفي القرآن، ويتمتّع بمقام مرموق في الدّيانات الإبراهيمية. ومع أنّه أصبح عبدا بعد أن باعه إخوته لبعض التجّار، رفعه الله إلى منصب وال على مصر وأنقذ أهله وكثيرين غيرهم من مجاعة شديدة عمّت البلاد. ويُعرف النّبي يوسف بتفسيره للأحلام وكان وسيلة فضل الله كما نرى في سورة يوسف: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة يوسف: 6].
كان يوسف (عليه السلام) ابن النّبي يعقوب من زوجته راحيل، ونشأ في بلاد كنعان (أي ما يُعرف اليوم بفلسطين) إلى جانب إخوته الأحد عشر وأخته دينا وربّما كان لديه أخوات أخريات. كتب المؤرخ اليعقوبي: “وكان يوسف أحبّ ولد يعقوب إلى يعقوب لأنه كان أجملهم وجها، وكانت أمّه أحبّ نسائه إليه”. لذا خاط يعقوب ثوبا مميّزا لابنه يوسف لكي يظهر محبّته له. وعندما كان النّبي يوسف في السّابعة عشرة من عمره وهبه الله منامين أظهر فيهما أنّه سيحظى بسيادة بين أفراد عائلته وهو ما أغضب إخوته كثيرا وفي النّهاية تآمروا على قتله.
ولكنّهم بدلا من ذلك رموا يوسف (عليه السلام) في بئر وانتشله جمع من التجّار، فأخذوه معهم في قافلتهم إلى مصر حيث باعوه عبدا لرجل يُدعى فوطيفار عزيز مصر. وأخبر الطّبري في تاريخه عن يعقوب وابنه يوسف: “وكان ابنه يوسف قد قُسِم له ولأمِّه من الحسن ما لم يقسم لأحد من الناس”. وحُسن النّبي يوسف جعله موضع اهتمام زوجة العزيز التي “راودته عن نفسه” (انظر سورة يوسف: 23). ولأنه رفض ذلك وفرّ منها هاربا، اتهمته أمام زوجها بالخيانة فرماه في السجن.
وفي السجن منح الله النّبي يوسف القدرة على تفسير الأحلام وهذا ما جعله في النهاية في محضر فرعون الذي رأى منامين ولم يستطع أحد تفسيرهما، ولكن النبي يوسف فسّرهما بمهارة، وأخبر فرعون أنهما بمثابة تحذير موجّه إليه ليحذّر شعبه بأن مجاعة كبيرة على وشك أن تحدث. واختار فرعون أن يرفع النبي يوسف إلى أن يكون واليا على مصر وكلّفه بمهمّة تحضير البلاد لمواجهة المجاعة. وهكذا أصبح النّبي يوسف سببا في نجاة والده يعقوب وأهله من المجاعة، بل نجا الشعب المصري بأكمله بالإضافة إلى كثير من الناس من البلاد المجاورة.
ونرى في قصّة يوسف (عليه السلام) وفاء الله لتحقيق وعوده الموجّهة لعباده المخلصين المتواضعين رغم كلّ ظروفهم العويصة. إنّ الله هو المهيمن على التاريخ لا ريب ويدير مجراه لكي يعرف الناس صفاته الحميدة فهو الرحمن الرحيم، ولتحلّ عليهم النجاة. ونرى في شخصيّة النّبيّ يوسف صفات اللطف والصبر والمسامحة لإخوته الذين ظلموه. وتفوق هذه الصفات الرّوحانية صفات الحسن الجسدية، لذلك أصبح قدوة لنا في الإيمان والأخلاق.

قصّة النبي يوسف

النبي يوسف وإخوته

وأقام يعقوب (عليه السّلام) في أرض كنعان، حيث عاش أبوه من قبل. وهذه سيرة آل يعقوب: لمّا كان يوسف (عليه السّلام) شابًا في السابعة عشرة من عمره، كان يرعى الغنم مع إخوته أبناء بِلْهَة وزِلفَة زوجَتي أبيه، وكان يخبر أباه بما يرى من سيئاتهم. وكان النبي يعقوب يحبّ ابنه يوسف أكثر من بقيّة أبنائه لأنّه ابن شيخوخته. وخاط له قميصًا مميّزًا. وكان إخوته يبغضونه لأنّ أباهم يحبّه أكثر منهم جميعًا، وبلغ بغضهم له درجة أن لا يكَلِّموه كلمةً طيّبةً واحدة.
ورأى يوسف (عليه السّلام) ذات ليلة في منامه رؤيا، ولمّا أخبر إخوته بما رأى ازدادوا له بغضًا. قال لهم يوسف (عليه السّلام): “أصغوا إلى هذه الرؤيا التي جاءتني في المنام، إذ رأيتُ أنّنا نحزِم حُزَمًا من القمح في الحقل، وفجأةً وقفت حزمتي وانتصبت ثمّ أحاطَت بها حُزمكم وانحنت لها”. فأجابه إخوته: “أنت ذو كبْر عظيم! أتحسب أنّك ستكون علينا ملكا أو تتملّك رقابنا؟” وزاد بغضهم له بسبب أحلامه وحديثه عنها. وبعد فترة قصيرة رأى يوسف (عليه السّلام) في منامه رؤيا أخرى، ورواها لإخوته قائلاً: “أصغوا إليّ، لقد رأيتُ في منامي مرّة أخرى: رأيتُ الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا لي ساجدين”. ونهره أبوه حين روى عليه وعلى إخوته قائلاً: “ما هذا الّذي رأيته؟ أنأتي أنا وأُمّك وإخوتك وننحني أمامك أرضًا؟” وحسده إخوته كثيرًا، ولكنّ أباه يعقوب (عليه السّلام) أخذ يتأمّل في معنى أحلام ابنه ودلالاتها.

إخوة النبي يوسف يبيعونه

وذهب إخوة يوسف (عليه السّلام) ذات يوم ليرعوا غنم أبيهم في منطقة شَكيم، وبعد مضي فترة من الزمن، قال يعقوب ليوسف (عليهما السلام): “إنّك تعلم أنّ إخوتك يرعون الغنم عند شَكيم، وعليّ أن أُرسلك إليهم حتّى أَطمئنّ عليهم”. قال يوسف (عليه السّلام): “لك ما تريد يا أبي”. فأجابه: “اِذهب واطمئنّ على إخوتك وعلى المواشي، وعُدْ بسرعة وأخبرْني عن أحوالهم”. وأَرسله من وادي حَبرون حيث يقيمون، فجاء إلى شَكيم. وصادفه رجل وهو يتجوّل في البادية، فسألَه: “عمّن تبحث؟” فأجابه (عليه السّلام): “أبحث عن إخوتي. هل تعلم أين يرعون غنمهم؟” أجابه الرجل: “لقد رحلوا من هنا، وسمعتهم يقولون: “دعونا نذهب إلى دُوثان”. فاقتفى يوسف (عليه السّلام) أثرهم، فوجدهم في دُوثان.
وعندما لمح إخوة يوسف (عليه السّلام) أخاهم يقترب منهم تآمروا على قتله. فقال بعضهم لبعضٍ: “ها هو صاحب الأحلام مُقبل. تعالوا نقتله ونرميه في إحدى الآبار، ثمّ نخبر أبانا أنّ وحشًا شرسًا افترسه، وسنرى كيف ستنفعه أحلامه”. فسمع رأوبين، فأنقذه من قبضتهم وقال: “لا نقتلُه! ليس لنا أن نسفك دمًا. بل اطرحوه في هذه البئر هنا في البادية، حتّى نتخلّص منه ولا نمدّ إليه أيدينا بأذًى”. وكانت غاية رأوبين أن ينقذ يوسف (عليه السّلام) من إخوته ويُرجعه لأَبيه سالمًا. وعندما وصل يوسف (عليه السّلام) إلى إخوته نزعوا عنه قميصه الملوّن، وأخذوه وطرحوه في البئر، ولم يكن بالبئر ماء. ولمّا جلسوا ليتناولوا طعامهم، لمحوا من بعيد قافلةً من بني إسماعيل قادمة من بلاد جِلْعاد، وجمالها مُحمّلة بالتوابل والبَلسم والصمغ الباهظ الثمن من شجر المُرّ، وكانت في طريقها إلى مصر. فقال يَهوذا لإخوته: “ماذا نستفيد إن قتلنا أخانا وأخفينا موته؟ دعونا نبِعه لهؤلاء التجّار من بني إسماعيل ولا نؤذيه، فهو أخونا من لحمنا ودمنا”. فوافق إخوته.
وحين وصل هؤلاء التجّار من مِديَن، أمسك الإخوة يوسف (عليه السّلام) وأخرجوه من البئر. وباعوه لهم بعشرين قطعة من الفضّة، فأخذته القافلة إلى مصر. وعاد رأوبين إلى البئر ليخرج يوسف (عليه السّلام)، فلم يجده هناك، فمزّق من شدّة الحزن ثيابه وعاد إلى إخوته وقال لهم: “أخونا غير موجود، وماذا أفعل الآن؟” وذبحوا تيسًا من المعز وأخذوا قميص يوسف (عليه السّلام) وغمسوه في دم التيس. وأرسلوا القميص المُلوّن إلى أبيهم وقالوا: “وجدنا هذا. فتحقَّقْ منه، أليس هذا قميص ابنك يوسف؟” وعرف النبي يعقوب قميص يوسف وقال: “هو قميص ابني. لا شكّ أنّ وحشًا قد افترسه، ومزّقه تمزيقًا”. وشقّ النبي يعقوب ثيابه ولبس خيشًا حِدادًا على ابنه، وناح أيّامًا طوالاً. وحاول جميع أبنائه أن يعزّوه، فرفض العزاء قائلاً: “لن أكف عن النواح على ابني حتّى أنزل إلى دركات الموت”. وبكى النبي يعقوب بكاء مُرًّا. أمّا يوسف (عليه السّلام)، فوصل به تجّار مِدْيَن إلى مصر، وباعوه للعزيز فوطيفار، وهو أحد رجال حاشية فرعون وقائد الحرس.

النبي يوسف عند العزيز

أخذ التجار الإسماعيليون يوسف (عليه السّلام) معهم إلى مصر، وباعوه إلى فوطيفار المصريّ، أحد رجال حاشية فرعون وقائد الحرس. وكان الله مع النبي يوسف، فنجح بكلّ ما عمله خلال إقامته في بيت سيّده المصريّ.
ولاحظ سيّده هذا النجاح وتأكّد أنّ الله ينجح له (عليه السّلام) سعيه ويمنحه الفلاح في كل شيء، فخدم يوسف (عليه السّلام) سيّده بأمانة فحظي برضاه، وجعله وكِيلاً على بيته وولاه على كلّ ممتلكاته. وبارك الله بيت العزيز المصري إِكرامًا للنبي يوسف منذ اليوم الّذي كلّفه فيه بتدبير شؤون بيته وكلّ ممتلكاته. فحلَّت بركة الله على ممتلكات العزيز في البيت وفي الحقل.(٦ ولم يشغل العزيز نفسه إلاّ بالطعام الذي يأكله، إذ ترك كلّ ممتلكاته ليوسف (عليه السّلام) كي يتصرّف فيها.

محاولة إغواء يوسف

وكان يوسف (عليه السّلام) حسن المنظر بَهيًّا. ولاحقت زوجة العزيز يوسف بنظرها وراودته عن نفسه مُرَاودَة. فرفض (عليه السّلام) واستعصم وقال لها: “لقد ائتمنني سيّدي على ما في بيته، فلمْ يَشغل نفسه بشيء منه. إنّ سيّدي أحسن مقامي، ولا أحد هاهنا أعظم منّي إلاّ هو، ولم يمنع عنّي شيئًا غيركِ لأنّكِ زوجته. معاذ الله! كيف أرتكب هذه الخطيئة العظيمةَ وأُخطئ في حقّ الله؟” ولكنّها لم ترتدّ عن شهوتها وكانت تزداد إلحاحًا عليه بمعاشرتها يومًا بعد يوم، ويزداد يوسف (عليه السّلام) امتناعا وعفافًا.
ودخل (عليه السّلام) البيت ذات يوم ليقوم بعمله، ولم يكن في الَبيت أحد سوى زوجة الفوطيفار، فأمسكت بثوبه وهمّت به. فترك لها ثوبه وفرّ خارج البيت.(٨ فعندما رأت ثوبه وفراره، صاحت حتّى سمعها أهل بيتها، وقالت لهم حين وصلوا إليها: “انظروا هذا العِبرانيّ الّذي جاء به زوجي، كيف أراد هتك عرضي! دخل ليراودني عن نفسي فلمّا صرختُ بأعلى صوتي، ترك ثوبه بجانبي وهرب”.
واحتفظتْ المرأة بثوب النبي يوسف عندها ولمّا عاد سيده إلى البيت، حكت له الحكاية ذاتها قائلة: “هذا العبد العِبرانيّ الّذي جئتَنا به دخل غرفتي وحاول أن يُراوِدني عَنْ نَفْسِي! وعندما رفعتُ صوتي وصرختُ ترك ثوبه وهرب”. فاستشاط السيّد غضبًا حين سمع حكاية زوجته. فقبض على يوسف (عليه السّلام) وزجّ به في سجن الملك. وهكذا أصبح النبي يوسف سجينًا. وكان الله مع النبي يوسف وشمله بوفائه وجعل قائد السجن راضيًا عنه. وسرعان ما جعل قائد السجن جميع السجناء تحت إشراف يوسف (عليه السّلام)، وأوكل إليهِ تدبير جميعِ ما كانوا يقومون به. وكان القائد لا يبالي بشيء في عهدة النبي يوسف، لأنّ الله كان معه وكان يُوفّقَه في كلّ ما يعمل.

النبي يوسف يفسّر الأحلام

وحدث أن أخطأ رئيس سُقاة الملك ورئيس خبّازيه في حقّ سيّدهما فرعون. فاشتدّ عليهما غضبه وأمر بسجنهما في بيت قائد الحرس حيث كان يوسف (عليه السّلام) بين المساجين. فجعلهما قائد الحرس تحت إشراف يوسف (عليه السّلام) الّذي اعتنى بهما.
ومرّت فترة من الزمن وساقي فرعون وخبّازه مُقيمان في السجن، ورأى كلّ واحد منهما في الليلة نفسها منامًا له دلالة خاصّة. ولمّا أقبل عليهما يوسف (عليه السّلام) في الصباح الباكرِ بدا عليهما الاكتئاب فسألَهما: “لماذا أنتما عابسان هذا اليوم؟” فأجاباه: “لقد رأى كل واحد منَّا منامًا ولا أحد استطاع تفسيره”. فقال لهما يوسف (عليه السّلام): “الله وحده قادر على تفسير المنام، وأنا عبده فأخبراني بما رأيتما”.(١
فقصّ رئيس السُّقاة منامه على النبي يوسف أوّلاً وقال: “رأيت في منامي شجرة عنب بين يدَيّ، وفي الشجرة ثلاثة أغصان، وكانت إذا طلعَ ورقها أزهر ونضجت عناقيدها وصارت عنَبًا في لحظات. وكانت كأس فرعون في يدي، فأخذتُ العنب وعصرته في كأس فرعون وقدّمته له”. فأجابه يوسف (عليه السّلام): “إليك تفسير المنام: الأغصان الثَّلاثة ثلاثة أيّام. بعد ثلاثة أيّام يرفع فرعون شأنك ويرُدّك إلى منصبك، فتقدّم إلى فرعون كأسه كما تعوّدتَ أن تفعل من قبل. فمتى حَسُنت حالك وخرجت من السجن، أرجوك أن تذكرني عند مولاك، لعلّه يُخرجني من هنا، فقد أخذوني بتعنّت من أرض العِبرانيّين، وزجُّوا بي في غياهب السِّجن بظلمهم الوخيم”.
ولمّا رأى رئيس الخبّازين أنّ النبي يوسف فسّر المنام تفسيرًا إيجابيًّا، قال له: “أنا أيضًا رأيتُ مناما لم أفهمه. لقد رأيتُ أنّي أحمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز رفيع. وفي السلّة العُليا خبز خاصّ لفرعون وكان الطير يأكل منه”. فأجابه يوسف (عليه السّلام): “إليك تفسير منامك: السلال الثلاث ثلاثة أيّام أيضا. بعد ثلاثة أيّام يقطع فرعون رأسك ويُعلِّقك على خشبة، فتأكل الطير لحمك”.(٢ وصادف أن كان عيد ميلاد فرعون بعد ثلاثة أَيّام، فأقام وليمةً لجميع رجال حاشيته، واستدعى من السجن رئيس السقاة ورئيس الخبّازين ليقفا أمام كلّ الحاضرِين. فأعاد رئيس السقاة إلى منصبه ليقدّم له الكأس وأمر بإعدام رئيس الخبّازين وتعليقه على خشبة، كما تنبأ بذلك النبي يوسف. أمّا رئيس السقاة فلم يذكُر النبي يوسف لفرعون بل نسيه تمامًا.

منام فرعون

وبعد مرورِ سنتين، رأى فرعون في منامه أنّه واقف بجوار نهر النيل، ورأى سبع بقرات بهيّة سمينة تخرج منه، وترعى في المرج. ثمّ رأَى سبع بقرات أخرى عجاف قبيحة تخرج من النهر، وتقف بجانب البقرات السمان على ضفة النهر. ثمّ التهمت البقرات العجاف البقرات السمان، واستفاق فرعون من نومه.
ثمّ عاد فرعون إلى نومه ثانيةً فرأى منامًا آخر: رأى سبع سنابل تخرج من ساق واحدة وكانت ملأى، ورأى سبع سنابل سوداء عجفاء لفحتها ريح الصحراء تعقبها وتنبت وراءَها. ورأى السنابل العجفاء تبتلع السنابل الصفراء! وأفاق فرعون، وأدرك أنّ ما حدث كان رؤيا.
وانزعج فرعون في الصباح من المنامين انزعاجًا، واستدعى جميع سحرة مصر وحُكَمائها. وقصّ عليهم ما رأى في منامه، فلم يتمكّن أي واحد منهم من تفسير المنامين.(٥ ثمّ قال رئيس السُّقاة لفرعون: “ها أنا أذكر زلّتي، أذكر وعدا وعدته منذ سنين. لقد اشتدّ غضبك عليّ وعلى رئيسِ الخبّازين منذ فترة، وسجنتنا في بيت قائد الحرس. ورأى كلّ منّا في ليلة واحدة منامًا، وكان لكل منام تفسير خاصّ. وكان برفقتنا شابّ عِبرانيّ، وهو عبد لقائد الحرس، فقصصنا عليه ما رأيناه في المنام، ففسَّر لكلّ واحد منّا منامه. وصدقت الوقائع بعد ذلك تفسيره، فقد أعدتني إلى منصبي ساقيا، وأعدمتَ الرجل الآخر على خشبة”. واستدعى فرعون يوسف (عليه السّلام) في الحال، فأحضروه من غياهب السجن. فتزيّن وغيّر ثيابه ومثَلَ أمام فرعون، فقال له فرعون: “رأيتُ منامًا لم يستطِع أحد تفسيره، وبلغني أنّك قادر على تفسير الرؤى والأحلام”. فأجابه النبي يوسف: “حاشا أن أنسب ذلك إلى نفسي يا سيّدي، بل الله هو الّذي يستطيع أن يعطيك تفسيرًا يطمئنك”.
فأخبر فرعون النبي يوسف بتفاصيل منامه، وأردف قائلاً: “لقد قصصت منامي على السحرة، فما استطاع أحدٌ تفسير ذلك لي”.
فأجابه النبي يوسف: “إن كلا المنامين يحملان المعنى نفسه، والله أخبرك مسبقًا بما سيفعله. فالبقرات السبع الجيّدة سبع سنين، والسنابل السبع الجيّدة أيضا سبع سنين. والبقرات السبع العجاف التي ظهرت خلفها، وكذلك السنابل العجفاء الّتي لفحتها الريح الصحراوية، مجاعة تمتدّ سبع سنين. وستتحقّق كلّ هذه الأحداث كما وصفتُها لك تمامًا، لأنّ الله كشف لك مسبقًا ما سيفعله. ستأتي على مصر كلّها سبع سنين من الرخاء العظيم، وستليها مباشرةً سبع سنين مجاعة، فينسى الناس سنين الرخاء في مصر، وتتلف المجاعة البلاد. وتكون شديدة جدًّا، فلا يتذكَّر أهل البلاد ما كانوا فيه من شبع. وما تكرّر ما رأيت في المنام على فرعون مرّتين بطريقة متشابهة إلاّ لأنَّ الأمر مقضي عند الله وسيحققه عاجلاً.(٦
“عليكم الآن يا مولاي أن تجدوا رجلاً بصيرًا حكيمًا تعهدون إليه بتدبير شؤون أرض مصر كلّها، وتوكِّلون مشرفين في كلّ أرجاء الأرض يأخذون خُمس محصولها خلال سنوات الرخاء السبع. فيجمعون، تحت إشرافكم، خيرات السنين الآتية ويحملونها إلى مخازنكم ويحرسونها حتّى تكون مؤونة في المدن. وبهذه الطريقة سيتوفّر الطَّعام عندما تحلّ سنين المجاعة السبع على أَرض مصر، فلا تهلك البلاد من الجوع”.

ترقية النبي يوسف

لاقى اقتراح النبي يوسف (عليه السّلام) استحسان فرعون وجميعِ حاشيته. فقال فرعون لحاشيته: “هل نجد مِثله رجلاً فيه روح الله؟” وقال فرعون للنبي يوسف: “بما أنّ الله أَعطاكَ كلّ هذه المعرِفة، فلا نظير لك في الحكمة والتدبير. إنّي جعلتك وكيلاً على القصر، ويكون شعبي كلّه تحت أمرك، أمّا أنا فأكون أعظم منك والآمر الناهي. وها أنا أجعلك حاكمًا على أرض مصر كلِّها”.(٨ وخلع فرعون خاتمه وجعله في إصبع النبي يوسف، وألبسه ثياب كتّان فاخرة، وطوَّق عُنُقه بسلسلة من ذهب. ثمّ أركبه مركبة نائب فرعون ونادى الحرس أمامه: “انحنوا للوالي!” وهكذا جعله فرعون وكيلاً على أرض مصر كلّها.
وقال فرعون ليوسف (عليه السّلام): “أنا الملك. ولكن دون إذنك لا يقدر أحد أن يحرّك يدًا أو رجلاً في أرض مصر كلِّها”. ومنحه فرعون اسمًا جديدًا، صَفْنات فَعْنيح(٩، وزوَّجه أسنات بنت فوطي فارَع، كاهن مدينة أُون. وهكذا صار النبي يوسف وكيلاً على أرضِ مصر كلّها.
وكان عمر النبي يوسف ثلاثين سنة حين شرع في خدمة فرعون ملك البلاد. وخرج من قصر فرعون وتجوّل في كلّ أرجاء مصر.
وفعلاً كان نتاج الأرض وفيرا خلال سنوات الرخاء السبع تلك، وجمع يوسف (عليه السّلام) كل هذه المحاصيل وَخَزَنَها في مُدُنِ مصر. واحتفظ في كُلّ مدينة بمحاصيل الحقول المجاورة لها، وخزن كميات هائلة من القمح تضاهي في كثرتها رمال البحرِ، حتّى أنه كَفّ عن عدها لأنّها كانت أكثر من أن تحصى.
وأنجبت أسْنات قبل حلول المجاعة للنبي يوسف ولدين. فسمَّى (عليه السّلام) ابنه البكر مَنسَّى (ومعناه: المَنْسيّ) لأنّه قال: “جعلني الله أنسى معاناتي وحنيني لأهل بيت أبي”. وسمَّى (عليه السّلام) ابنه الثَّاني أفرايِم (ومعناه الْمُثمِر مُضاعَفًا) لأنّه قال: “جعلني الله مُثمرًا في البلاد التي فيها أعاني”.
وانتهت سنوات الرخاء السبع في أرض مصر وبدأت سنوات المجاعة السبع تتالى كما تنبأ يوسُف (عليه السّلام). فأصابت المجاعة جميع البلدان المجاورة، أمّا مصر فقد توفّر الطعام في كل أرجائها. ولكن مع مرور الوقت حلّت المجاعة على مصر أيضا، فاستغاث الشعب وطلب من فرعون الطعام، فأجاب فرعون شعبه: “اِذهبوا إلى يوسف وافعلوا ما يقول لكم”. واشتدّت المجاعة وشملت كلّ أرض مصر، ففتح يوسف (عليه السّلام) المخازن وباع القمح للمصريّين. وأقبل النَّاس من جميع الأنحاء إلى مصر ليشتروا قمحًا من النبي يوسف، فقد عمّت المجاعة واشتدّت.

أول لقاء بين النبي يوسف وإخوته

بلغ يعقوب (عليه السّلام) أنّ القمح متوفّر في مصر فقال لأبنائه: “ما بالكم تنظرون إلى بعضكم بعض؟ بلغني أنّ القمح موجود في مصر. فاذهبوا إلى مصر واشتروا لنا قمحا فنحيا ولا نموت”. فتوجّه عشرة من إخوة يوسف (عليه السّلام) إلى مصر ليشتروا قمحًا، أمّا يعقوب (عليه السّلام) فلم يُرسل بنيمين أخو النبي يوسف مع إخوته خشيةً أن يصيبه ما أصاب يوسف من قبل.
وتوجّه أبناء يعقوب (عليه السّلام) إلى مصر مع آخرين لشراء القمح إذ بلغت المجاعة أرض كنعان. وكان النبي يوسف آنذاك عزيز أرض مصر، ويشرف على بيع القمح لكلّ الناس، وعندما وصل إخوته انحنوا أمامه احترامًا له. وعرف يوسف (عليه السّلام) في الحال هويتهم ولم يعرفوه، فتنكَّر لهم وخاطبهم بجفاء: “مِن أين جئتم؟” أجابوا: “مِن أرض كنعان لنشتري طعامًا”.
وتذكَّر (عليه السّلام) الأحلام الّتي رآها قبل سنوات فقال لهم: “أنتم جواسيس! جئتم لتتجسّسوا على بلادنا وعلى الأماكن غير المحميّة فيها!” فقالوا له: “لا يا مولانا، نحن عبيدك جئنا لنشتري طَعامًا. نحن جميعًا إخوة من عائلة واحدة. نحن أمناء ولسنا جواسيس!” فقال لهم: “كلاّ، بل جئتم لتكتشفوا الأماكن غير المحميّة في بلادنا”. قالوا: “نحن يا مولاي اثنا عشر أخًا، وأبناء رجل واحد في أرض كنعان. أصغرنا مع أبينا وآخر مفقود”. أمّا يوسف (عليه السّلام) فأصرّ قائلا: “أنتم كما قلتُ! أنتم جواسيس! وإنّي سأمتحن صدقكم: وحياة فرعون، إنّكم لن تخرجوا إلاّ إذا أحضرتم أخاكم الأصغر إلى مصر. فأرسلوا واحدًا منكم ليُحضره، وسيظلّ البقية في السجن، حتّى أختبر صحّة كلامكم إن كنتم من الصادقين. وإن اكتشفتُ أنّكم كذبتم عليّ، فقسمًا بحياة فرعون سأعاملكم كجواسيس!” وسجنهم ثلاثة أيّام.
وفي اليوم الثالث قال لهم يوسف (عليه السّلام): “أنا رجل أخشى الله. اِفعلوا ما أطلب منكم، حتّى تنجوا بحياتكم. إن كنتم حقًّا أمناء، فليبقَ واحد منكم في هذا السجن، أمّا البقية فليعودوا ومعهم قمح يَسُدّ جوع أهلكم. ولكن يجب أن تُحضروا لي أخاكُم الأصغر، فيكون هذا برهانًا على صِدق كلامكم، فلا تموتوا”. فوافقوا على ذلك. وتكلّموا فيما بينهم قائلين: “لا شكّ أنّ هذا العقاب حلّ علينا بسبب أخينا يوسف! وعندما رأيناه في ضيق متوسّلاً إلينا من أجل حياته، لم نستجب له. لهذا السبب حلّ علينا هذا البلاء”. فأجابهم رَأوبين: “أما حذّرتكم: لا تخطئوا وتُسيئوا إلى أخيكم؟ لكنّكم لم تسمعوا! لذلك لا بدّ أن ندفع فدية دمه”. وكانوا يجهلون أنّ النبيّ يوسف يفهم حديثهم، لأنّه كان من قبل يستعين بمترجم. فغاب عنهم قليلا وبكى، ثمّ عاد إليهم وكلَّمهم، وأخذ شِمْعون مِن بينهم وقيَّده أمام أنظارهم.

العودة إلى أرض كنعان

وأمرَ يوسف (عليه السّلام) رجاله أن يملأوا أكياس إخوته قمحًا ويَردّوا فضّة كلّ واحد مِنهم إلى كيسه، وأن يعطوهم زادًا للطريق. ففعلوا كما أمر. وحمّل إخوة يوسف دوابّهم بالقمح وتوجّهوا إلى ديارهم. وتوقَّفوا عند الغروب للمبيت، ففتح أحدهم كيسه ليعطي علفًا لدابّته، فإذا بفضّته في فم كيسه. فقال لهم: “انظروا! لقد رُدَّت فضّتي، ووجدتُها في كيسي”. فاستولى الفزع على قلوبهم، والتفت بعضهم إلى بعض وقالوا: “ماذا فعل الله بنا؟”
ولمّا وصلوا إلى أبيهم يعقوب (عليه السّلام) في بلاد كنعان، أخبروه بكلّ ما حدث، فقالوا: “لقد خاطبنا عزيز مصر بشدّة ظنًّا بِأَنّنا جواسيسِ. فقلنا له: نحن أمناء وما جئنا جواسيس لنفسد في الأرض! نحن اثنا عشر أخًا من عائلة واحدة، أحدنا مفقود وأصغرنا عند أبينا في أرض كنعان. فقال لنا: “لأتأكّد أنّكم أمناء، اتركوا أحدكم هنا، وخُذوا ما يَسُدّ جوع أهل بيتكم وانصرفوا. وجيئوا بأخيكم الصغير إليّ، فأتيقّن أنّكم أمناء لا جواسيس فأُسلّمكم أَخاكم وتجولون في هذه الأرض بحريّة”.
وبينما هم يُفرِغون محتوى أكياسهم، وجد كلّ منهم كيسه الصغير وبداخله فضّته، فاستولى عليهم وعلى أبيهم خوف شديد.
فقال لهم يعقوب (عليه السّلام): “حرمتموني من أولادي! يوسف مفقودٌ وشِمعون مفقودٌ، وها أنتم تريدون أن تأخذوا بنيمين. لقد حلّت عليّ كلّ المصائب!”(٥ فأجاب رَأوبين أباه: “اقتُل ولديَّ إن لم أرجِع إليك بنيمين. إنّه في عُهدتي وسأَرُدُّهُ إليك سالمًا”. فقال يعقوب (عليه السّلام): “لن يرحل ابني معكم أبدًا! فهو الوحيد الّذي بقي لي من أُمّه راحيل! أما يكفيني أنّ أخاه يوسف مات؟ فإن أصاب بنيمين أذىً في الطريق تجعلونني أَموت في شيبتي بحسرة”.

عودة بني يعقوب ومعهم بنيمين

واشتدّت المجاعة في بلاد كنعان. ولمّا انقضى ما اشتراه بنو يعقوب مِن مصر من قمح، قال لهم أبوهم: “عودوا إلى مصر واشتروا لنا قليلاً من الطعام”. فأجابه يَهوذا: “يا أبي، إنَّ تحذير العزيز لنا كان شديدًا إذ قال: ‘لا تعودوا إلى مصر إلاّ وقد أقبل معكم’. فأرسل معنا بنيامين إلى مصر حتّى نشتري قمحًا، وإن رفضتَ بقينا هاهنا، لأنّ عزيز مصر قال لنا: لن تروا وجهي إلاّ وأخوكم معكم”. فقال يعقوب (عليه السّلام): “لماذا أنزلتم عليّ هذا البلاء وأخبرتم العزيز أنّ لَكم أخًا آخر؟” وأجابوا: “هذا ليس ذنبنا، إنَّ العزيز ألحّ في السؤال عنّا وعن أهالينا قائلا: ألا يزال أبوكم حيًّا؟ وهل لكم أخٌ آخر؟ وكُنَّا نجيبه بتلقائية. فكيف لنا أن نعرِف أنَّه سيطلب منا إحضار أخينا بنيمين؟”
وقال يَهوذا لأبيه: “أرسِل معي بنيمين حتّى ننطلق في الحال، فنأتي بقمح يحيينا وأولادنا ولا نموت جوعًا. أنا أضمنه وأكون مسؤولاً عنه شخصيًّا، وإن لم أعُد به إليك سالمًا، فسأكون مذنبا في حقّك طول حياتي. ولولا أنّنا أضعنا وقتنا، لكُنّا الآن قد سافرنا إلى مصر مرّتين”.
أخيرًا وافق يعقوب (عليه السّلام) قائلاً: “إن كان لا بدّ من ذلك فخذوه معكم. املؤوا أوعيتكم بأطيب فواكه أرضنا واحملوها هديّةً إلى العزيز. خُذوا شيئًا من البَلسم والتوابل والعسل والمِسك والصمغ من شجرة المُرّ والفُستُق واللوز. وخُذوا معكم ضعف ما أخذتم من قبل من الفضّة، حتّى ترُدّوا لهم الفضّةَ الّتي وجدتموها في أَفواه أكياسكم أوّل مرّة. لعّل ذلك سهوٌ منهم. وخُذوا معكم أخاكم وتوجّهوا إلى وزير مصر، والله القدير يجعل العزيز يرحمكم فيطلق شِمعون ويسمح لبنيمين أن يعود معكم أيضًا. وإن كان لا بدّ أن أفقد أولادي، فسأفقدهم”.
فأخذ الإخوةُ الهدايا وضعف الفضّة وانطلقوا مع بنيمين. وعندما وصلوا إلى مصر وقفوا في حضرة يوسف (عليه السّلام). ولمّا رأَى النبي يوسف بنيمين أخاه قال لوكيل بيته: “خُذ هؤلاء الرجال إلى القصر وهَيّئْ وليمة كبيرة تليق بهم فسيكونون ضيوفي على الغداء”. ففعل الرجل كما أمره يوسف (عليه السّلام).
وعندما اقترب الإخوة من قصر يوسف (عليه السّلام) انتابهم الخوف وقالوا: أحضرونا هاهنا للفضّة الَّتي وجدناها في أكياسنا في زيارتنا الأولى. سيتّهمنا العزيز بسرقتها، فسيتهجّم علينا بحدّة ويغلبنا ويأخذنا عبيدًا ويستولي على دوابّنا”. ولمّا وصلوا باب القصر، قالوا لوكيل بيت العزيز: “من فضلك يا سيّدي، لقد جئنا إلى مصر أوّل مرّة لنشتري طعامًا، وفي طريق عودتنا، توقّفنا للمبيت، وعندما فتحنا أكياسنا، وجد كلّ واحد منّا فضّته كاملة في فم كيسه، وها هي معنا لنردّها إليك، وإنّا لنجهل من وضعها في أكياسنا. وجئنا بفضّة أخرى لنشتري طعامًا”. فقال الوكيل: “لا عليكم! لا بدّ أنّ ربّكم الّذي آمن به أبوكم وضع هذا الكنز في أكياسكم، وأمّا فضّتكم فقد وصلتني”. ثمّ أحضر إليهم شِمعون. وأدخلهم إلى قصر العزيز، وأَعطاهم ماءً ليغسلوا أرجلهم وعلفًا لدوابّهم. وعلموا أنّهم ضيوف على الغداء فهيَّأوا الهدايا ليوسف (عليه السّلام).
وعندما جاء (عليه السّلام) إلى القصر قدَّموا له الهدايا الّتي معهم وانحنوا إلى الأرض احترامًا له. فسألهم عن أحوالهم وقال: “كيف حال أبيكم الشيخ الّذي ذكرتموه لي؟ هل مازال على قيد الحياة؟” أجابوا: “يا مولانا، إنّ أبانا بخير وهو على قيد الحياة”. وانحنوا تقديرًا له. فنظر حوله فرأى بنيمين أخاه من أُمّه وقال: “هل هذا أخوكم الصغير الّذي ذكرتموه لي؟” ثمّ قال له: “بارك الله فيك يا بُنيّ”. ولمّا رأى يوسف (عليه السّلام) بنيمين جاشت عواطفه فأسرع إلى الخارج ودخل غرفته الخاصّة وأجهش بالبكاء. ثمّ غسل وجهه وتمالك نفسه وعاد قائلاً: “قدِّموا الطعام”. فقدّموا الطعام له، ولإخوته، وللضيوف المصريّين كلّ على حدة. لأنّ المصريّين لا يجوز لهم الأكل مع العِبرانيّين لاعتقادهم أنّ الأكل معهم يجعلهم نجسين. وأجلس (عليه السّلام) إخوته أمامه، بالترتيب حسب أعمارهم، من البكر إلى الأصغر. فنظر بعضهم إلى بعض بدهشة. وأرسل النبي يوسف بعض الطعام من مائدته إليهم، فكانت حصّة بنيمين خمسة أضعاف حصّة الواحد منهم. فأكلوا وشربوا معه فرحين.

كأس النبي يوسف في كيس بنيمين

وجاء يوم خروج الإخوة من مصر إلى بلادهم، فأمر يوسف (عليه السّلام) وكيل بيته: “املأ أكياس ضيوفي قمحًا قدر ما يستطيعون حمله، وضعْ فضّة كلّ واحد في فم كيسه. وضَعْ كأسي الفضيّة في فم كيس أصغرهم مع مبلغ ثمن القمح”. ففعل كما أمره النبي يوسف. وعند الفجر انصرف الإخوة بدوابّهم المحمّلة. وما إن ابتعدوا قليلاً عن المدينة حتّى قال النبي يوسف لوكيل بيته: “اِلحق بهؤلاء الرجال حالاً، وعندما تدركهم قل لهم: لماذا كافأتم الخير بالشرّ؟ لماذا سرقتم كأس الفضّة الّتي يشرب فيها مولاي، وبِها يكشف أحوال الغيب؟ لقد ارتكبتم ذنبًا كبيرًا فيما فعلتم!”(٨
وعندما لحق الوكيل بهم، أعاد عليهم الكلام نفسه. فأجابوه: “لِمَ تقول هذا الكلام، يا سيّدي؟ حاشا لله أن نقدم على هذا العمل الشنيع، ونكون من السارقين! لقد حملنا الفضّة الّتي وجدناها في أفواه أكياسنا في الزيارة الأولى وأتينا بها من أرض كنعان، فكيف نسرق من بيت مولاك فضّةً أو ذهبًا؟ ها نحن أمامك، وإن وجدتَ الكأس مع أحدنا فاقتله، ونكون نحن أيضًا عبيدًا لك يا سيّدي”. فقال: “ما كُنّا في الأرض ظالمين، وإنّما يكون عبدًا مَن أجد معه الكأس فقط، أمّا بقيّتكم فليعودوا إلى ديارهم”.(٩ فأسرع كلّ واحد منهم وأنزل كيسه من على دابّته وفتحه، وبدأ الوكيل بتفتيشهم من الأكبر إلى الأصغر، فإذا الكأس في كيس بنيمين. فمزّقوا ثيابهم حزنًا، وحمَّلوا دوابّهم بالأكياس، وعادوا أدراجهم إلى قصر العزيز في المدينة.
وكان يوسف (عليه السّلام) في القصر عند عودة يَهوذا وإخوته الّذين انبطحوا أرضا أمامه. فقال لهم يوسف (عليه السّلام) صارمًا: “ما هذا الّذي ارتكبتموه؟ أما تعلمون أنّ رجلاً مِثلي يمكن أن يكشف ما خفي عنه بعلمه للغيب؟” فأجابه يَهوذا: “بماذا نجيبكم يا مولاي، وماذا نقول لكم، وكيف نثبت براءتنا؟ فضح الله إثمنا، يا مولاي. ونحن ومن وجدت الكأس في رحله نصير لك عبيدًا”. فأجابه (عليه السّلام): “معاذ الله أن نأخذ عبدا إلاّ من وجدنا الكأس عنده، أمّا أنتم فعودوا إلى أبيكم آمنين”.

طلب يهوذا

وهنا تقدَّم يَهوذا نحو يوسف (عليه السّلام) قائلاً: “أرجوك يا مولاي اسمع قولي، ولا تغضب على عبدك، فشأنك يا مولاي مِثل شأن فرعون. سألتَنا هل لدينا أب أو أخ آخر؟ فأجبناكم: أجل يا مولاي لدينا أب مسنّ رُزق بولد في شيخوخته، وقد مات أخوه وبقي هو الوحيد من أمّه، وكان أبوه يحبّه كثيرًا. فطلبتَ منّا يا مولاي، أن نحضره إليك حتّى تراه بأم عينيك. فأجبناك يا مولاي: سيموت أبونا حسرة إذا فارقه ابنه الصغير. فقلتَ لنا: “إن لم تحضروا معكم أخاكم الصغير، لن تروا وجهي مجدّدًا”. فلمّا رجعنا، يا مولاي، إلى أبينا أخبرناه بما قلتَ لنا. وبعد حين قال أبونا: عودوا إلى مصر واشتروا لنا قليلاً من الطعام. فقُلنا: لا نقدر أن نعود، لأنّنا لا يمكن أن نرى وجه الوالي إلاَّ بمعيّة أخينا الصغير. فقال لنا أَبي: كما تعلمون، إنّ زوجتي راحيل أنجبت لي ولدين. فخرج أحدهما مِن بيتي، ولا شكّ أن وحشًا مزَّقه إربًا إربًا، لأنّي ما رأيتُ له أثرًا إلى الآن. فإن أخذتم ابني هذا أيضًا وأَصابه أذىً، تدفعونني إلى دركات الموت في شيبتي بحسرة وكمد. والآن يا مولاي لا يمكنني أن أعود إلى أبي دون أخينا الأصغر، لأنّ حياة أبينا مرتبطة بحياته، وإذا رأى أبونا أن أخانا ليس معنا، سيموت بلا ريب، ونحن من يتحمّل مسؤولية موته في شيبته بحسرة. يا مولاي، أنا تعهّدتُ لأبي بسلامة الولد، وقلتُ له: إن لم أرجعه إليك، أكون مذنبًا في حقّك طول حياتي. والآن يا مولاي أرجوك أن تسمح لي أن أبقى هنا وأكون عبدًا لك بدل أخي الأصغر، واسمح له بالعودة مع إخوته. فكيف يمكنني أن أعود إلى أبي من دونه، إنّي لن أتحمّل رؤية ما سيحلّ بأبينا”.

النبي يوسف يكشف عن حقيقته

فلم يستطع يوسف (عليه السّلام) أن يتمالك نفسه أمام جميع القائمين على خدمته فأمرهم بالخروج جميعًا، فلم يكن معه سوى إخوته حين كشف لهم عن هويّته. فرفع صوته بالبكاء فسمعه المصريّون وبلغ الخبر أهل قصر فرعون. وقال النبي يوسف لإخوته: “أنا يوسف! أمازال أبي على قيد الحياة!؟” ولم يستطِع إخوته التفوّه بكلمة واحدة لأنّهم ارتعبوا من وجوده حيًّا أمامهم.
فقال لهم (عليه السّلام): “اقترِبوا منّي”. فاقتربوا منه، ثمّ قال: “أنا يوسف أخوكم، لقد بعتموني إلى تجّار أتوا بي إلى مصر. والآن لا تأسفوا ولا تلوموا أنفسكم على ما فعلتم، فالله أرسلني أمامكم لأحفظ حياتكم. إنّ المجاعة الّتي حلّت علينا منذ سنتين ستستمرّ خمس سنين أخرى لا فلاحة فيها ولا حصاد، فأرسلني الله أمامكم ليحفظكم وذريّتكم في الأرض ويُنجّي حياتكم بطريقة عظيمة. ما أنتم الّذين أرسلتموني إلى هنا، بل الله هو الّذي أرسلني. وجعلني وليّ فرعون، ومشرفًا على قصره، وعزيزا على كلّ أرض مصر. فعجلوا بالعودة إلى أبي وأخبروه: هذا ما يقولُه ابنك يوسف: جعلني الله سيّدًا على بلاد مصر. تعال إليّ ولا تتأخَّر، أريدك أن تُقيم بأرض جاسان لتكون قريبًا منّي، أنت وأولادك وأحفادك وأغنامك وأبقارك وكلّ ممتلكاتك. وسأتكفّلُ بمعيشتكم لأنّ المجاعة ستستمرّ خمس سنوات أخرى، حتّى لا تهلك جوعًا أَنت وأهل بيتك وكلّ المواشي. يمكنكم أن تتأكّدوا بأعينكم كما تأكّد أخي بنيمين أنّي يوسف حقًّا! أخبروا أبي بمقامي المجيد هنا في مصر وبكلّ ما رأيتم، وعجّلوا في إحضاره إلى هنا”.
وتعانق يوسف (عليه السّلام) وأخوه بنيمين وبكيا من الفرح. وقبّل (عليه السّلام) جميع إخوته وبكى معهم. وأخذوا يكلّمونه دون خوف.

دعوة فرعون

ولمّا بلغ خبر مجيء إخوةِ يوسف إلى القصر، فرح فرعون ورجال حاشيتِه. وقال فرعون ليوسف (عليه السّلام): “اطلب من إخوتك أن يحمِّلوا دوابّهم ويسرعوا إلى بلاد كنعان، ويعودوا صحبة أبيهم وأهل بيتهم ويأتوني لأُعطيهم أجود أرض في مصر، فيتمتّعوا بخيرات البلاد. وأُوصيك أن تقول لهم أيضًا: خُذوا مركبات من مصر لنقل أطفالكم وزوجاتكم، ولا تنسوا أن تأتوا بأبيكم. ولا يهُمَّكم أن تتركوا أملاككم هناك، فأجْوَد ما في أرض مصر تحت أمركم”.

العودة إلى أرض كنعان

وفعل بنو يعقوب كما أمرهم فرعون. وأعطاهم يوسف (عليه السّلام) مركبات وزادًا للطريق وأعطَى كلّ واحد منهم ثيابًا جديدة، أَمّا بنيمين فأعطاه ثلاث مئة قطعة من الفضّة وخمس حُلل من الثياب، وأرسل إلى أبيه عشر دوابّ محمَّلة مِن أجود منتوجات مصر، وعشر أُتُن محمَّلة قمحًا وخبزًا وزادًا لسفر أبيه. ثمّ صرف إخوته في سبيلهم، وقال لهم: “لا تتخاصموا في الطَّريق”.
وعادوا إلى أبيهم يعقوب (عليه السّلام). وأخبروه أن: “يوسف مازال حيًّا! وقد أصبح واليًا على أرض مصر كلّها!” فاندهش النبي يعقوب ولم يُصدِّقهم. لكنّهم أعادوا على مسمعه كلّ ما قاله النبي يوسف لهم، وأروه المركبات الّتي أرسلها لنقله إلى مصر، فصدّقهم وتعافى وانبعثت فيه الحياة. وقال لهم: “إذن ما ذكرتموه هو الحقّ! ابني يوسف مازال حيًّا! لا بدّ أن أذهب إليه وأراه قبل أن أفارق الحياة”.

رحيل النبي يعقوب إلى مصر

فأخذ النبي يعقوبُ (عليه السّلام) جميع ما يملك ورحل إلى مصر، وعندما وصل إلى بئر السبع، ذبح أضحية إكرامًا لله الّذي آمن به أبوه إسحق (عليه السّلام). وفي الليل أوحى الله إليه: “يعقوب، يعقوب!” قال: “لَبَّيك!” فأجابه تعالى: “أنا الله ربّ أبيك. لا تخف في رحيلك إلى مصر، فهناك أجعلك أُمّةً عظيمةً. وأكون معك في رحلتك إلى مصر وأجعلك تعود إلى كنعان، أمّا أنت فسترحل عن هذه الدنيا بحضور ابنك يوسف الذي سيغمض عينيك بيديه”.
ثمّ ترك يعقوبُ (عليه السّلام) بئر السبع، بعد أن أركبه أبناؤه مع أطفالهم وزوجاتهم على المركبات الّتي أرسلها فرعون. وأخذوا مواشيهم وكلّ ممتلكاتهم واتّجهوا إلى مصر. ورافق يعقوب (عليه السّلام) جميع أهل بيته، أبناؤه وبناته وأحفاده وحفيداته.

لقاء يعقوب ويوسف

وعندما اقترب النبي يعقوب (عليه السّلام) ومن معه من مصر، أرسل ابنه يَهوذا أمامه إلى النبي يوسف كي يرشدهم إلى طريق جاسان. ولمّا وصلوا إلى منطقة جَاسان، أعدّ يوسف (عليه السّلام) مركبته واتّجه إلى هناك ليستقبل أباه يعقوب (عليه السّلام)، وحين رآه أقبل عليه وعانقه وبكى طويلاً. فقال له النبي يعقوب: “مَرْحبًا بالموت يا ولدي بعد أن رأيتك حيًّا”.
وقال يوسف (عليه السّلام) لإخوته ولأهل بيت أبيه: “سأذهب الآن إلى فرعون لأقول له: لقد جاء إليّ إخوتي وأهل بيت أبي الّذين كانوا يقيمون في أرض كنعان. وهم رعاة غنم وأصحاب مواش، وقد أتوا بأغنامهم وأبقارهم وجميع ممتلكاتهم. وعندما يدعوكم فرعون ويسألكم: ما حرفتُكم؟ أجيبوه: يا مولانا، نحن رعاة، أبا عن جد، طيلة حياتنا. وبهذه الطريقة يمكنكم أن تقيموا بأرض جاسان، لأنّ المصريين يرفضون التقرّب من رعاة الغنم”.

النبي يعقوب أمام فرعون

ودخل يوسفُ (عليه السّلام) على فرعون وأخبره: “لقد وصل أبي وإخوتي من أرض كنعان بأغنامهم وأبقارهم وكلّ ممتلكاتهم، وقد شارفوا الآن على منطقة جاسان”. واختار يوسف (عليه السّلام) خمسة من إخوته وأحضرهم أمام فرعون. فسألهم فرعون: “ما حرفتُكم؟” فأجابوا: “نحن يا مولانا رعاة غنم، كما كان أسلافنا. وجئنا لنقيم في أرضك، فلا مَرعى لغنمنا بعد أن اشتدت المجاعة في كنعان. فاسمحْ لنا أن نقيم بأرض جاسان”. فالتفت فرعون إلى النبي يوسف وقال له: “بما أنّ أباك وإخوتك جاؤوا إليك، فإنّ أرض مصر تحت تصرّفك، فاختر أحسن الأراضي ليسكنوا فيها، أرض جاسان مثلاً، وإن كنتَ تعلم أنّ فيهم مهارة في رعاية الغنم، فأوكلْهم على ماشيتي أيضًا”.
ثمّ أدخل يوسف أباه يعقوبَ (عليهما السلام) وأجلسه في حضرة فرعون. فطلب النبي يعقوب بركة الله لفرعون. وسأله فرعون: “كم عمرك؟” فأجابه النبي يعقوب: “أنا عابرٌ في هذه الدنيا منذ مئة وثلاثين سنةً. ولكن حياتي كانت قصيرة وقاسية مقارنة بحياة أجدادي. ثمّ طلب النبي يعقوب مرّة أخرى بركة الله لفرعون وخرج مِن حضرته.
فأعطى يوسف (عليه السّلام) أباه وإخوته أجود أرض مصر في إقليم رَعَمْسيس يقيمون فيه، كما أمر فرعون. وزوّد النبي يوسف أباه وإخوته وسائر أهل بيت أبيه بما يحتاجونه مِن طعام حسب عدد عيالهم.

خطة النبي يوسف الزراعية

ونفد الطعام في كلّ مكان لأنّ المجاعة قد اشتدّت، وأصاب القحط مصر وكنعان. وتولّى يوسف (عليه السّلام) جمع كلّ الأموال في مصر وكنعان من خلال بيع القمح، واذّخرها في خزينة فرعون. وأقبل المصريّون إلى يوسف (عليه السّلام) بعد أن نفد مالهم، وتوسّلوا إليه قائلين: لقد نفد مالنا! أعْطِنا خبزًا حتّى لا نهلك من الجوع!” فأجابهم النبي يوسف: “لئن نفد مالكم، فإن ماشيتكم باقية فأعطوني ماشيتكم أُعطكُم طعاما”. فجاؤوا إلى يوسف (عليه السّلام) بمواشيهم ودوابّهم، فأمدّهم بطعام مقابل ذلك خلال تلك السنة.
فلمّا انقضت تلك السّنة عادوا في السّنة الموالية إلى النبي يوسف وقالوا له: لا نخفيك يا سيّدي أنّ الفضّةَ نفدت، ومواشينا خرجت من ملك أيدينا إليك، ولم يبق لنعطيك سوى أبداننا وأراضينا. هل تريدنا أن نموت أمام ناظريك وتهلك أرضنا؟ نريد أن نصير وأرضنا ملكا لك مقابل الطعام، فنصير عبيدًا لفرعون، وأعطِنا قمحًا فنحيا ولا نموت، ولا تصير أرضنا قاحلة”.
واشترى يوسف (عليه السّلام) لفرعون جميع أراضي المصريِّين، لأنّ كلّ واحد منهم باع حقله مِن شدّة المجاعة. فصارت الأرض ملكًا لفرعون. ونقل النبي يوسف الناس من كلّ أطراف مصر إلى المدن. واشترى (عليه السّلام) كلّ الأراضي ما عدا أراضي الكهنة الذين لم يضطروا إلى بيعها لأنهم كانوا يحصلون على حصة من الطعام ممّا خصّهم به فرعون.
وأعلن يوسف (عليه السّلام) للشعب: “لقد أصبحتم اليوم وأراضيكم ملكًا لفرعون، فخُذوا بذورًا وازرعوها. وعند الحصاد تعطون خُمس المحصول لفرعون، وتبقى البقية عندكم بذورًا للحقول وطعامًا لكم”. فأجابوا: “يا مولانا لقد أنقذتَ حياتنا، دعنا نكون في خدمة فرعون”. فأصدر النبي يوسف مرسومًا سَرَى مفعوله على أهل مصر، ويقضي المرسوم أن يكون خُمس المحصول لفرعون، باستثناء أراضي الكهنة الّتي لم تصبح من أملاك فرعون.

وصية النبي يعقوب قبل وفاته

واستقرّ بنو يعقوب بمنطقة جاسان في أرضِ مصر، وامتلكوا هناك مُلكا كبيرا، وتكاثر عددهم كثيرا. وعاش النبي يعقوب (عليه السّلام) سبع عشرة سنة في أرض مصر، وتوّفي عن سن مئةً وسبع وأربعين. ولمّا اقتربت ساعة وفاته، دعا ابنه يوسف وقال له: “إذا كنت تحب أباك حبّا مرضيّا، فأقسم لي قسم اليمين أن تكون لهذا الوعد وفيّا، وأن تنفّذ ما جعلتك عليه وصيّا: لا تتركني في مصر دفينا، بل احمِلْ جثماني وادفنه في مقبرة آبائي”. فاستجاب له النبي يوسف ووعده بذلك. فقال يعقوب (عليه السّلام): “أقسم لي على ذلك”. فأقسم يوسف اليمين. ثمّ انحنى يعقوب على سريره ساجدًا.

مباركة يعقوب لمنسّى وأفرايم

وبعد أيّام بلغ يوسف (عليه السّلام) أنّ أباه مريضٌ، فزاره واصطحب معه ابنَيهِ منَسَّى وأفرايم. وعند وصولهم، علم النبي يعقوب بالخبر، فاستجمع قواه وجلس على فراشه.
وقال ليوسف: “لقد تجلّى لي الله القويّ المتين بجوار بلدة لُوز في أرض الكنعانيّين، وباركني وكشف لي الحق اليقين: “سأكثر نسلك وأجعل منك أممًا كثيرة، ولنسلك مِن بعدك آتمن هذه الأرض على مدى السنين”. يا يوسف، إنّ ابنيك منَسَّى وأفرايم اللّذين رزقك الله بهما في أرض مصر، ابناي أيضا، تمامًا مثل رَأوبين وشِمعون. وإذا رُزقتَ بأولاد بعدهما فهم أبناؤك وينالون نصيبهم مِن الأراضي الّتي يملكها منَسَّى وأفرايِم.
فقد توّفيت أُمّك راحيل في أرض كنعان على مقربة من أفراتة وهي لا تزال صغيرة، فدفنتُها هناك بجانب الطريق قبل وصولنا إلى بيت لحم”.(٢
ولمّا رأى النبي يعقوب ابْنَيْ يوسف، قال: “مَن يكون هذان الولدان؟” فأجاب يوسف (عليه السّلام): “هما ابنايَ وقد رزقني الله بهما في مصر”. فقال يعقوب (عليه السّلام): “قَرِّبْهما منّي حتّى أدعو لهما بالبركات”. ولم يستطع النبي يعقوب أن يبصر لأنّ عينيه أبيضّت من الكِبَر. فقرّب النبي يوسف ابنيه من أبيه، فقبَّلهما واحتضنهما وقال ليوسف: “عجبا! ما توقّعتُ أن أرى وجهك يا يوسف، ولكنّ الله أراني ابنيك أيضًا!” ثمّ أخذ يوسف (عليه السّلام) ابنيه من حضن أبيه وانحنى إلى الأرض تقديرًا له.
وقرّب ابنيه من أبيه مرّة أخرى جاعلاً منَسَّى على يمين النبي يعقوب وأفرايم على يساره، فمدَّ النبي يعقوبُ يديه بطريقة متقاطعة. فوضع يمينه على رأس أفرايم مع أنّه الأصغر ويساره على رأس منَسَّى مع أنّه البكر.(٣ وطلب بركة للنبي يوسف قائلا:
“اللهمّ، يا من سلك في سبيلك جدي إبراهيم،
يا من أنرت لأبي إسحق الصراط القويم،
يا مَن ترعاني على مدى السنين،
يا الله، يا من أرسلت إليّ ملاكا يحرسني ويحميني
اجعل هذين الولدين من المباركين.
يرفعان من شأني وشأن أبي إسحق وجدّي إبراهيم
واجعل نسلهما في الأرض كثيرين”.
وحين رأى يوسف (عليه السّلام) يمنى أبيه على رأس أفرايم كره ذلك لولده منسّى، فأمسك بيد أبيه برفق. وقال بلين: “لا يا أبي، إنّ من على يمينك هو البكر، ويمناك على رأس أفرايم تكون”. فأبى يعقوب النبيّ وقال: “أعرف ذلك يا بني. يصبح منَسَّى شعبًا كبيرًا، ولكنّ أخاه الأصغر يصير أعظم منه، ومن نسله ينحدر عدد من الأُمم كثير”.
وفي ذلك اليوم دعا النبي يعقوب بركة الله لهما، قائلاً: “سيذكر بنو يعقوب اسْمَيْكما في دعائهم للناس، وسيقولون: “ليجعلك الله مثل أفرايم ومثل منَسَّى”. وهكذا قَدَّم النبي يعقوب أفرايِم على منَسَّى.
ثمّ قال النبي يعقوب لابنه يوسف: “يا بُنيّ أصغ إلي، أنا على وشك الرحيل، ولكنّ الله يكون معكم خير معين ويردُّكم إلى أرض آبائكم الأوّلين. وإنّك يا يوسف تفوق إخوتك في النصيب، فقد منحتُك فوق ميراثك إقليم شَكيم الخصيب، ذاك الذي أخذتُه بسيفي وقوسي مِن الأموريّين”.

نبوءة النبي يعقوب عن أبنائه ودعاؤه لهم

ثمّ دعا النبي يعقوب بنيه، فأقبلوا نحوه منصتين:
“التفّوا حولي يا أبنائي، حتّى أكشف لكلّ واحد منكم ما قُدّر له ولنسله من قضاء:
يا بني يعقوب اجتمعوا،
وإلى أبيكم استمعوا.
يا رَأوبين أنت بكر أولادي الأحباب،
أنت قوّتي وأوّل مولود لي في عنفوان الشباب.
فائق المكانة أنت
وفائق المتانة كنت،
هائج كالسّيل أنت، تهدّ ما أمامك
لكنّك تفقد صدارة مقامك.
علَوتَ فراش أبيك واقترفت الحرام.
فَحرَّمتَ جاريتي عليّ بما أتيت من إجرام.

شِمعون ولاوي من طينة واحدة يتأتّيان،
وللبطش سيفاهُما مصقولان،
فاجتنبي يا نفس مشورتهما
وابتعدي عن صُحبتهما.
فقد غضبا فقتلا أناسًا من الجيران،
وحين يلهوان يكسِّران مفاصل الثّيران.
ما أشرّ غضبهما إنّه لشرّ لئيم،
نعم، غيظهما قاس بغيض ومآله وخيم!
من أجل ذلك تُبدّد ذريتهما
وفي أرض بني يعقوب يُشتَّتون.

أمّا أنت، يا يَهوذا، فبين إخوتك عزيز كريم،
تعلو رقاب أعدائك المنهزمين.
ويكون كلّ أقاربك أمامك منحنين.
يا يَهوذا، أنت مثل شِبل أسدٍ في الخلاء
التهم فريسته وقام يتمشّى في خيلاء،
تجثو وتربض كأسدٍ متين
أو كلَبوةٍ جامحة، فمَن يدنو من حماك العتيد؟
لا تنقطع من نسلك سلالة الحكّام
ولا تزول مِن ذرّيّتك عصا السلطان،
حتّى يأتي صاحب الحقّ المبين،
فتنصاع له جميعُ الأُمم ويكرمونه خاضعين.
وتكون أرضه خصبة خضراء
فلا يهمّه إن ترك جحشه يأكل من الكروم،
أو غسل ثيابه بعصير الأعناب،
ويتمتّع بفيض من هذا العصير،
وبسيول من الحليب الوفير.

أمّا أنت يا زَبولون ففي ساحل البحر يكون السّكن
هناك تنشئ مَرفأ للسّفن،
وتمتدّ أرضك إلى صيدا.

يسَّاكَر ولدي كضخم البغال
مستكين تحت الأحمال.
وحين يرى ما حظي به على الأرض من خيرات ونعم
يحني كتفه للحمل
ويستعدّ لشاقّ الأعمال.

دانُ يَدينُ أهل عشيرته
وشأنه لا يقلّ عن بقية قبائل بني يعقوب
وكذلك شأن قبيلته
قد يكون كثعبان على الطريق صغيرا
ولكنّه لمن يقترب منه خطيرا،
هو أُفعوان على السّبيل يترقّب،
يلسع الفرس في عقبها ويتعقّب
ويسقط فارسها إلى الخلف ويتهرّب
سترك يا الله ونجاتك من وقيعته!

وأنت يا جادُ أرضك مرمى الغُزاة،
ولكنّك تطاردهم بدورك فتلحق بهؤلاء القساة.

ويكون أشيرُ دسم الطعام
يثير طعامه شهيّةَ الملوك العظام.

نفتالي كغزالة طليقة
تلدُ ظباءً جميلةً.

يوسف غصن شجرة مثمر على عين ماء رقراق،
امتدّت جذوره على الحائط وفي الأعماق
ولكن ها هنا رماة بكلّ عنف هاجموه
أطلقوا عليه سهامهم وكدّروه.
ولكنَّه ثبت في المعركة ولم يصبه الإخفاق،
وبقدرة الله العزيز الذي آمن به يعقوب، قويت يداه
إنّ الله الحصن الحصين حماه من أعدائه ورعاه.
اللهمّ انصر ابني يوسف الحبيب،
وباركه ببركات الغيث من الآفاق
وبركات أنهار تنبع من الأعماق
باركه يا ربّ بكثرة المواشي والبنين،
إنّك القوي المتين.
لقد حظيتُ ببركات تفوقُ الجبال سموّا
وبخيرات تبلغ قمم الروابي علوّا.
اللهمّ، اجعل كلّ هذه البركات تحلّ على ابني يوسف الحليم
الذي نذرتُه لك من بين إخوته الآخرين.

بِنيمينُ يكون محاربًا، إنّه كذئب مفترس قويّ،
يهجم على عدوه صباحًا ويغنمه مساءً”.

وصية النبي يعقوب قبل وفاته

هؤلاء هم جميعًا قبائل بني يعقوب الاثني عشر، وهذا ما تنبّأ به يعقوب (عليه السّلام) لهم قبل وفاته، فدعا لكلّ واحد منهم بما يناسبُهُ. ثمّ أوصاهم قائلاً: “قريبًا أغادركم وأنضمّ إلى أسلافي الراحلين. فادفنوني مع أبي وجدي في مغارة حقل المَكفيلَة، بجوار بلوطات مَمْرا في أرض كنعان، تلك المغارة الّتي اشتراها جدي إبراهيم مع الحقل من عَفرون الحثِّيِّ. وفيها دُفن إبراهيمُ وزوجتُه سارة، وإسحَق وزوجته رِفقَةُ، وهناك دفنتُ زوجتي ليئة. فانتقلت ملكية الحقل والمغارة الّتي فيه مِن الحِثّيين إلى جدي إبراهيم”. ولمّا فرغ النبي يعقوب مِن وصيّته لأبنائه، تمدّد على فراشه وتنفّس نفسًا أخيرًا وانضمَّ إلى أسلافه السّابقين.

مأتم النبي يعقوب ودفنه

وارتمى يوسف (عليه السّلام) على أبيه وقبّله وبكاه. وأوصى الأطبّاء أن يُحنِّطوه، ففعلوا ما أمرهم به. واستغرَق التحنيط كما هي عادة المصريّين أربعين يومًا. وأعلن المصريّون حدادًا على النبي يعقوب سبعين يومًا. ولمّا انقضت أيّام الحداد على يعقوب (عليه السّلام) قال النبي يوسف لرجال حاشية فرعون: “أسدوا لي معروفا، كلّموا فرعون نيابةً عني وأخبروه أن أبي استحلفني وهو يموت: إنّي على وشك الموت يا ولدي، فاحملْ جثماني من بعد موتي إلى بلاد كنعان وادفنه في القبر الذي أعددته لنفسي”. فاسمح لي، أيها الفرعون، أن أذهبَ لأدفن أبي ثمّ أعود “. ووافق فرعون على طلب النبي يوسف، قائلاً: “اذهبْ واعمل بوصيّة أبيك”.
فاتّجه النبي يوسف إلى بلاد كنعان ليدفن أباه، ورافقه جميع رجالِ حاشية فرعون وكبار قصره، وجميع أعيان مصر، وصحب يوسف (عليه السّلام) جميع أهل بيته وإخوته وأهل بيت أبيه، وتركوا عيالهم وأغنامهم وأبقارهم في منطقة جاسان. ورافق النبي يوسفَ عددٌ كبير من المركبات والفرسان.
ولمّا وصلوا إلى بيدر أطاد في الضفة الشرقية من نهر الأردنّ، أقام الحضور مراسم تذكارية على يعقوب (عليه السّلام)، وندبوه كثيرًا، وصنع النبي يوسف مأتمًا لأبيه استغرق سبعة أيّام. وراقب الكنعانيون، وهم سكّان تلك المنطقة، المأتم في بيدر أطاد فقالوا: “ما أشدّ الحزن في جنازة المصريين!” وأطلقوا بالعبريّة على هذا الموضع القريب من نهر الأردن “حداد المصريين”.
وهكذا أنجز أبناء يعقوب (عليه السّلام) ما أوصاهم به أبوهم، فحملوا جثمانه إلى أرض كنعان ودفنوه في مغارة حقل المَكفيلَة، بجوار مَمْرا، الّتي اشتراها النبي إبراهيم مع الحقل مِن عِفرون الحثِّيِّ. وبعد الجنازة قفل النبي يوسف عائدًا إلى مصر صحبة إخوته وسائر مَن رافقه إلى بلاد كنعان لدفن أبيه (عليه السّلام).

وفاة النبي يوسف

وبعد وفاة يعقوب (عليه السّلام) خاف الإخوة من النبي يوسف، وقال بعضهم لبعض: “لعلّ يوسف يحقد علينا فينتقم منّا الآن على الشرّ الّذي ارتكبناه في حقّه”. فأرسلوا مَن يقول ليوسف (عليه السّلام): “لقد أوصانا أبوك قبل موته أن نقول لك: “أرجوك أن تسامح إخوتك على الذنب الذي اقترفوه في حقك”. فنحن عباد الله الذي آمن به أبوك، نتوسَّل إليك أن تسامحنا”. فبكى يوسف (عليه السّلام) حين بلغته هذه الرسالة.
ثمّ جاء إخوته فارتموا أمامه وقالوا: “نحن خدامك الآن”. فقاطعهم النبي يوسفُ قائلاً: “لا تخشوا شيئًا. هل أنا مكان الله لأجازيكم؟ أنتم أردتم بي شرًّا ولكنّ الله أراد بي خيرًا، ورفعني إلى هذا المنصب لينقذ من خلالي حياة أناس كثيرين. فلا خوف عليكم. أنا أعولُكم أنتم وعيالكم”. وطمأنهم وهدّأ من روعهم.
وأقام النبي يوسف في مصر طويلاً، مع أهل بيت أبيه، وعاش مئةً وعشر سنين. وحضر الجيل الثالث من ذرية ابنه أفرايم، إضافة إلى أبناء حفيده ماكير بن منَسَّى الذين اعتبرهم من أولاده.
وقال النبي يوسف لإخوته: “حانت ساعة موتي، والله سيرعاكم ويخرجكم مِن هذه الأرض إلى الأرض الّتي أقسم ووعد بها أسلافكم إبراهيم وإسحَق ويعقوب”. واستحلف النبي يوسف إخوته قائلاً: “عندما ييسر الله خروجكم من هنا، احملوا عظامي معكم”.
وتوفّي النبي يوسف (عليه السّلام) بعد أن بلغ مئة وعشر سنين، فحنَّطه المصريون ووضعوه في تابوت في مصر.