7

قصّة النبي يعقوب

مدخل إلى قصّة النبي يعقوب

يُرفع شأن النبي يعقوب كثيرا في الدّيانات الإبراهيمية لكونه أحد الأنبياء والرّسل الأوّلين في الإيمان التوحيدي. وكثيرا ما يأتي ذكره مرفوقا بذكر إبراهيم وإسحق للإشارة إلى هذه الحقيقة كما نرى في سورة يوسف: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [سورة يوسف: 38]. يعقوب هو ابن إسحق وزوجته رفقة وهو حفيد النبي إبراهيم، وعمّه إسماعيل وهو يصغر أخاه التوأم العيص. ورزق النبي يعقوب باثني عشر ابنا من زوجتيه ليئة وراحيل ووصيفتيهما بلحة وزلفة اللتين أصبحتا من زوجاته أيضا. وأبناؤه هم: رأوبين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ودان، ونفتالي، وجاد، وأشير، ويسّاكر، وزبولون، ويوسف (عليه السلام) وبنيمين. ولا نجد ذكرا لبنات يعقوب في التوراة باستثناء ابنته دينا. أقام الله ميثاقا مع النّبي إبراهيم وأكّده فيما بعد لابنه إسحق وحفيده يعقوب على التوالي. وأعطى الله أيضا وعودا عظيمة لإسماعيل (عليه السلام) تشبه إلى حد كبير وعود الله في الميثاق الذي أكّده الله لإسحق. وأظهر الله فضله الكبير للنّبي يعقوب إذ رعاه وحفظه، فهو ﴿لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ [سورة ص: 47]. وتجدر الإشارة إلى ذكر الملاك الذي أرسله الله حتى يتصارع مع يعقوب ولكن الملاك لم يغلب يعقوب. لذلك أعلن الملاك أن الله منحه لقب إسرائيل ومعناه أمير الله. يحتلّ النّبي يعقوب مكانة مرموقة بما أنّ أبناءه الاثني عشر أصبحوا أسلافا لعشائر بني يعقوب وهم الأسباط، ويسمّى هذا الشعب أيضا آل يعقوب وبنو إسرائيل. وصار اسم كل هذه العشائر الاثني عشر بأسماء أبناء يعقوب. وبسبب مجاعة كبيرة حلّت على بلاد كنعان وهي لبنان وفلسطين التجأ النّبي يعقوب إلى مصر مع أبنائه وأهل بيته عند دعوة ابنه يوسف (عليه السلام) الذي أصبح واليا على مصر. وبقي يعقوب في مصر 17 سنة، وتوفي وعمره 147 سنة. وأعاد النّبي يوسف رفات يعقوب إلى فلسطين حيث دفن في مأتم ضخم رافقه فيه العديد من الوجهاء المصريين. وهو مدفون في مغارة المَكفيلة التي تقع فيما يعرف الآن بالحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل إلى جانب إبراهيم وسارة وإسحق ورفقة وزوجته الأولى ليئة.

قصّة النبي يعقوب

نسل إسحق

وهنا سجلّ نسل النبي إسحَق وهو ابن إبراهيم (عليه السّلام). وعندما بلغ أربعين سنة تزوّج من رِفقة بنت بَتوئيل أُخت لابان، مِن بلاد آرام الّتي تقع في بلاد الرّافدين في سوريا. وتضرّع النبي إسحَق إلى الله من أجل زوجته رِفقة لأنَّها كانت عاقرًا، فاستجاب الله لدعائه، وحبِلت رفقة بولدين. وتصارع الولدان في بطنها فقالت: “ما الذي يحدث لي؟” وسألَت الله أن يدلّها. فأوحى الله إليها: “في بطنكِ أُمّتان،(٢ ومنكِ يتفرّع شعبان، شعب يقوى على الآخر، والكبير يخضع للصغير”.(٣ فلمّا أنجبت التوأمَين خرج الأوّل يميل لونه إلى الحُمرة(٤ تغطّيه فَروة شعر، فسمّوه العيص. ولحق به أخوه وكانت يده قابضة على عَقب العيص، فسمَّوه يعقوب.(٥ وكان إسحَق (عليه السّلام) قد بلغ الستِّين حين أنجبت له رِفقة التوأمين. وكبُرَ الولدان، وأصبح العيص صيَّادًا ماهرًا يحبّ البراري، في حين ظلّ يعقوب (عليه السّلام) مُسالمًا يلزم الخيام. وأحبّ إسحَق العيص لأنّه استطاب صيده، في حين أحبت رفقةُ يعقوبَ (عليه السّلام).

العيص يتنازل عن امتيازاته كابن بكر

وصادف أن طبخ يعقوب (عليه السّلام) طبيخًا، ولمّا عاد العيص مِن البادية منهكا مِن الجوع قال للنبي يعقوب: “أطعمني مِن هذا الأُدم، إني أتضوّر جوعًا”. لذلك قيل له أَدوم. فقال له يعقوب (عليه السّلام): “إن كنتَ تتنازل لي عن امتيازاتك باعتبارك الابن البكر، أُعطيك من هذا الطبيخ”. فأجاب العيص: “إنّ الموت ليتربّص بي، فماذا أستفيد من هذه الامتيازات؟” فقال النبي يعقوب: “أقسم لي أولاً”. فأقسم وتنازل ليعقوب عن امتيازاته كابن بكر.(٧ فأعطى النبي يعقوب العيص خبزًا وطبيخًا مِن العدس، وبعد أن أكل وشرب انصرف العيص دون أن يبالي بخسارة امتيازاته كابن بكر.

النبي إسحق يطلب بركة الله على ابنه يعقوب

ولمّا تقدّم إسحَق (عليه السّلام) في السنّ وكَلّ بصره، استدعى ابنه الأكبر العيص، وقال له: “يا بُنيّ” فأجاب: “نعم يا أبي؟” فقال (عليه السّلام): “لقد صرتُ شيخًا كما ترى ولا أعرف متى أموت. خُذ أدوات الصّيد: سهامك وقَوسك، واخرجْ إلى البرّيّة وتصيَّد لي صيدًا، وجهِّز لي طعامًا شهيًّا كما أشتهي وأحضره إلي لآكل منه، فأنت ابني البكر وعليّ أن أطلب لك بركة من الله قبل أن أموت”.(١ وسمعت رفقة النبي إسحق عندما طلب من ابنه العيص ما طلب. فلمّا خرج العيص إلى البرّيّة ليصطاد صيدًا لأبيه، قالت رِفقة لابنها يعقوب (عليه السّلام): “سمعتُ أباك يقول لأخيك العيص: جئني بصيد وجهّز لي أطعمةً لآكل منها وأطلب لك بركة من الله في محضره تعالى قبل وفاتي. والآن يا بُنّي، أَصْغ إليّ جيّدًا واعملْ بما أُوصيك به. اِذهب إلى الغنم وخُذ لي منها جدييْن مِن خيرة المعز، لأجهّزهما أطعمةً لأبيك كما طلب. فتقدّم أنت الطعام إليه ليأكل منها ويطلب لك بركة الله قبل وفاته”.(٢ فقال يعقوب (عليه السّلام) لأُمّه رِفقة: “ولكنّ أخي العيص رجل أشعر وأنا رجل أملس. ماذا لو جسّني أبي فوجدني مخادعًا؟ ألا ينزل عليّ لعنة لا بركة؟” فقالت له أمّه: “فلتتنزّل اللعنة عليّ يا بُنّي لا عليك، أصغ لكلامي واذهب وأحضر لي الجدييْن.” فجاء بهما إلى أُمّه، فجهزّت الأطعمة الّتي يشتهيها أبوه. وأخذت رِفقة أفخر ثياب ابنها العيص الموجودة عندها في البيت، وألبستها ليعقوب ابنها الأصغر، وكست يديه والجانب الأملس مِن عنقه بجلد المعز. وناولت رِفقة ابنها يعقوب (عليه السّلام) الأطعمة الّتي جهّزتها والخبز، فدخل على أبيه وقال: “يا أبي”، فأجابه: “نعم، مَن أنت يا بُنيّ؟” فقال له النبي يعقوب: “أنا العيص ابنك البكر، وقد فعلتُ كما طلبتَ، قم واجلس وكلْ من صيدي ثمّ ادعُ لي بالبركة”. فقال له إسحَق (عليه السّلام): “كيف وجدتَ صيدًا بهذه السرعة يا بُنّي؟” فأجابه: “الله ربّك وفّقني ويسّر لي”. فقال له: “تعال، اقتربْ منّي لأَجسَّك يا بُنّي، فأتأكّد إِن كنتَ فعلاً العيص ابني”. فتقدّم يعقوب إلى إسحَق أبيه، فجسّه وقال: “الصوت صوت يعقوب، ولكنّ اليدَينِ يدا العيص”. ولم يعرفه لأنّ جلد الماعز غَطَّى يديه فأصبحتا مثل يديْ أخيه العيص. فعزم على طلب بركة من الله له قائلاً: “هل أنت حقًّا ابني العيص؟” فأجابه: “نعم”. فقال (عليه السّلام): “إذن قدِّم لي يا بُنّي من صيدك لآكُل وأطلب بركة الله لك”. فقدّم له الطعام فأكل، وأعطاه شرابًا فشرب. وقال له إسحَق (عليه السّلام): “اقترب مني وقبّلني يا بُنّي”. فتقدّم وقبّله، فشمّ النبي إسحَق رائحة ثيابه ودعا له بالبركة قائلا: “ها رائحة ابني كرائحة حقلٍ باركه الله يعطيك الله مِن ندى السماء ومِن خير الأرض فيضًا مِن الحنطة والشراب! لتخدمك شعوبٌ وتنحني أمامك! سيّدًا تكون لإخوتك، وأبناء أُمّك ينحنون أمامك. ومَن يدعو عليك باللعنات يتبعه الله بلعنة، ومن يدعو لك بالبركات يمنحه الله بركة! وما إن فرغ إسحَق (عليه السّلام) مِن كلامه، وخرج ابنه يعقوب من عنده، حتّى عاد أخوه العيص من الصّيد. فجهّز بدوره أطعمةً وأحضرها لأبيه قائلا: “تفضّل يا أبي، كُلْ من صيدي، واطلب لي بركة من الله”. فقال له أبوه: “مَن أنت؟” قال: “أنا العيص ابنك البكر”. فارتعش إسحَق (عليه السّلام) ارتعاشًا شديدًا وقال: “فمَن الّذي صاد صيدًا وجاءني به قبلك إذن، فأكلتُ منه كلّه قبل أن تجيء وطلبتُ له بركة؟ نعم، طلبت له البركة فحلّت عليه البركة!” فلمّا سمع العيص كلام أبيه صرخ عاليًا بمرارة قائلا: “وأنا يا أبي؟ ادْعُ لي يا أبي بالبركة أيضًا!” فأجابه: “سبقك أخوك ومكر بي وأخذ بركتك”. فقال العيص: “يعقوب! يعقوب يتعقّبني بالحيلة! استغفلني مرّتين، وأخذ مكانتي. في المرّة الأولى أخذ امتيازاتي كابن بكر، وها هو الآن يأخذ بركتي. أبي هل احتفظتَ لي ببركة غيرها؟” فأجابه إسحَق (عليه السّلام): “إنّي جعلتُه سيّدًا عليك، وجعلتُ جميع إخوته خدّامًا له وأمددته بالحنطة والشراب، فماذا تبقّى لك يا ابني؟” فقال العيص: “أعنْدك بركة واحدة فقط يا أبي؟(٣ أرجوك يا أبي ادعُ لي بالبركة أنا أيضًا!” وأجهش العيص بالبكاء. فأجابه أبوه (عليه السّلام): “ها مسكنُك يكون في أرض قاحلة لا يهطل عليها ندى السّماء. بسيفك تعيش وأخاك تخدم ولكن حين تثور عليه تكسر عن عنقك نيره”

يعقوب (عليه السّلام) يهرب من أخيه العيص

ونما الحقد في قلب العيص بسبب البركة التي أخذها منه النبي يعقوب، فقال في نفسه: “قريبًا يموت أبي، وبعد أيام الحداد سأقتل أخي يعقوب”. فبلغ رِفقةَ كلام العيص، فاستدعت يعقوب (عليه السّلام) وقالت له: “أخوك ينوي قتلك. والآن اسمعْ كلامي يا بُنّي، اُهرب حالاً إلى أخي لابان في حاران، وأقم عنده أيّامًا قليلةً حتّى يهدأ غضب أخيك. ومتى سكن غضبه ونسي ما فعلتَه به، أبعث إليك لتعود إلى هنا. إنّي لا أُريد أن أفقدكما أنتما الاثنين في يوم واحد!” وقالت رِفقة لإسحَق (عليه السّلام): “البنات الحِثّيّات ومنهنّ زوجات ابني العيص جعلوني أكره حياتي، فإن اتّخذ يعقوب زوجة من بنات الكنعانيين أيضًا، فالموت يكون لي خيرًا من الحياة، فخير لي أن أموت”.

النبي يعقوب عند لابان

فاستدعى إسحَق يعقوب ودعا له بالبركة من الله وأوصاه قائلا: “إيّاك أن تتزوّج بإحدى بنات الكَنعانيين، بل اذهبْ إلى بلاد الرافدين إلى دار جدّك بَتوئيل، وتزوّج من إحدى بنات خالك لابان. فليبارك اللهُ القويّ المتين مسعاك ويرزقك بأبناء كثيرين، وليكثرهم ليصبحوا شعوبًا عديدين. ويعطِك أنت ونسلك البركة الّتي أعطاها لإبراهيم، فتكون البلاد التي وهبها الله لإبراهيم التي تعيش فيها الآن غريبًا، مُلكًا لك.”(٧ وأرسل إسحَقُ يعقوب، فمضى إلى شمال بلاد الرافدين، حيث يقيم لابان ابن بَتوئِيل الآراميّ، أخو رِفقة أُمّ يعقوب والعيص. وبلغ العيص أنّ إسحَق (عليه السّلام) طلب من الله بركة ليعقوب وأرسله إلى بلاد الرافدين ليتزوّج بامرأة من هناك، وأنّه حين دعا له أوصاه قائلا: “إيّاك أن تتزوّج بإحدى بنات الكنعانيين”. وأنّ يعقوب (عليه السّلام) أطاع والديْه وذهب إلى بلاد الرافدين. فلمّا تيقّن العيص أن أباه إسحَق (عليه السّلام) لا يَرضى بالزواج من بنات كَنعان ذهب إلى إسماعيل عمّه (عليه السّلام)، وتزوّج بإحدى بناته إلى جانب زوجتيه، وهي مَحْلَة بنت إسماعيل بن إبراهيم وأخت نابت. أمّا النبي يعقوب (عليه السّلام) فغادر بئر السبع متّجهًا إلى حاران، ووصل عند الغروب إلى موضع رأى أن يبيت فيه، فأخذ حجرًا من حجارة الموضع ووضعه تحت رأسه ونام. وفي المنام جاءته رؤيا وفيها رأى سُلّمًا يمتدّ من الأرض إلى السماء، وملائكة الله تصعد عليه وتنزل. وتجلّى الله في أعلى درجة من السُلّم وأوحى إليه: “أنا الله ربّ أبيك إبراهيم وربُّ إسحَق! الأرض الّتي تستلقي عليها الآن أهبها لك ولنسلك. وأجعل نسلك كتراب الأرض لا يستطيع أحد عدّه، وسينتشر غربًا وشرقًا وشمالاً وجنوبًا، وستنعم بك وبنسلك شعوب الأرض كلّها ببركاتي،(٩ وها أنا معك، أحفظك أينما اتّجهتَ. وإنّي لَرَادك ذات يوم إلى هذه الأرض،(١ فلا أتخلّى عنك حتّى أفيَ لك بكلّ ما وعدتُك به”. فأفاق النبي يعقوب من نومه وقال: “إنّ الله في هذا المكان حقًّا، وأنا لم أعلم ذلك!” فخاف وقال: “ما أعظم هيبة هذا الموضع وأرهبه! ما هذا إلاّ بيت الله، وباب السّماء!”(٢ وفي الصّباح الباكر أخذ يعقوب (عليه السّلام) الحجر الّذي وضعه تحت رأسه ونصبه عمودًا تذكاريًّا، وصبّ عليه زيتًا كعلامة تميّز هذا المكان.(٣ وكان هذا المكان يدعى لوز لكنه غيّر تسميته إلى بيت إيل.(٤ ونذر النبي يعقوب لله قائلاً: “إن كان الله معي حافظا وحاميا في رحلتي هذه، ورزقني مأكلاً وملبسًا، وأعادني سالمًا إلى دار أبي، سأتّخذه ربًّا لي دون شكّ! وسأجعل من موضع هذا الحجر الّذي نصبتُهُ عمودًا تذكاريًّا، مكانًا لعبادة الله، وسأقدّم له عُشر كلّ ما يرزقني به تعالى”.

لقاء يعقوب (عليه السّلام) براحيل

وغادر يعقوب (عليه السّلام) ذلك الموضع ومضى في رحلته إلى أرض المشرق. ورأى في طريقه حقلاً فيه بئر يغطّي فمها حجر ثقيل وتحيط بها ثلاثةَ قطعان من الغنم الرابضة تنتظر الرّعاة ليسقوها. وكان من عادة الرعاة أن يجمعوا القطعان كلّها هناك ويُدحرجوا الحجر عن فم البئر، فيسقوا الغنم ويعيدوا الحجر إلى موضعه. فَسألهم النبي يعقوب قائلا: “مِن أين أنتم يا إخوتي؟” فأجابوا: “من حاران”. فقال لهم: “هل تعرفون لابان حفيد ناحور؟” فأجابوا: “نعم، نعرفه”. فقال لهم: “هل هو بخير؟” أجابوا: “هو بخير، وانظر راحيل ابنته مقبلة الآن مع الغنم”. فقال لهم: “لا يزال النهار طويلاً، ولم يحن بعد وقت تجميع المواشي، فلماذا لا تسقون الغنم وتعيدونها إلى المرعى؟” فأجابوه: “لا يمكننا فعل ذلك حتّى تجتمع كل القطعان فنسقيها”. وبينما هو يحادثهم أقبلت راحيل مع أغنام أبيها لابان. فراحيل راعية لغنم أبيها. فلمّا رآها يعقوب مع أغنام خاله لابان سارع نحو البئر ودحرج الحجر عنها وسقى الأغنام. وقبّل يعقوب (عليه السّلام) راحيل وبكى من شدّة الفرح، وأخبرها أنّه ابن عمّتها رِفقة، فأسرعت وأخبرت أباها لابان. فلمّا علم لابان بخبر قدوم يعقوب ابن أخته سارع للقائه فعانقه وقبّله وجاء به إلى بيته. وأخبر يعقوبُ (عليه السّلام) لابان بكلّ ما جرى له في رحلته، فأجابه لابان: “أنت حقًّا مِن لحمي ودمي، فأقم عندي”. فأقام النبي يعقوب عنده.

زواج يعقوب

وبعد مرور شهر، صارح لابانُ يعقوبَ (عليه السّلام) قائلا: “لا يصحّ أن تخدمني مجّانًا لأنّك قريبي. أخبرني ما هي الأجرة الّتي تريدها؟” وكان للابان ابنتان، اسم الكبرى لَيئة واسم الصّغرى راحيل. وكانت لَيئة ساحرة العينين، أمّا راحيل فكانت حسناء وقوامها فتّان. فأحبّ يعقوب (عليه السّلام) راحيل، وصارح لابان قائلاً: “أخدمك سبع سنين إن كنتَ تزوّجني راحيل ابنتك الصغرى”. فقال لابان: “أَن تكون زوجتك أفضل مِن أن أُزوّجها لرجل آخر. فأقمْ عندي”. فخدمه النبي يعقوب سبع سنين مقابل أن يفوز براحيل، ولأنّه كان مولعا بحبّها فقد بدا له أن هذه المدّة مرّت بسرعة. وبعد مضي الوقت المحدّد، حان موعد زواج يعقوب (عليه السّلام) براحيل، فقال للابان: “لقد انقضت المدّة الّتي اتّفقنا عليها، فدعني أتزوّج راحيل”. فدعا لابان كُلّ الجيران وأقام لهم وليمةً، وعند هبوط الليل أخذ لابان ابنته لَيئة بدل راحيل وزفّها إلى يعقوب (عليه السّلام) فعاشرها.(٧ وأعطى لابان جاريته زِلْفة لابنته لَيئة. فلمّا طلع الصباح عرف النبي يعقوب أنّها لَيئة، فقال للابان: “ماذا فعلتَ بي؟ أما خدمتُك لتزوّجني راحيل؟ فلماذا خدعتني؟” فأجاب لابان: “ليس من عادتنا أن نزوّج البنت الصغرى قبل الكبرى. أَتمم أُسبوع زواجك، وبعد ذلك نزوّجك الصغرى أيضًا شرط أن تخدمني سبع سنين أخرى”. فوافق يعقوب (عليه السّلام) وبعد أُسبوع تزوّج راحيل أيضًا.(٨ وأعطى لابان جاريته بِلْهة لراحيل. وتزوّج النبي يعقوبُ راحيل وأحبّها أكثر من لَيئة، ومن أجلها عاد للابان فخدم عنده سبع سنين أخرى.

بنو يعقوب

ورزق الله ليئة أولادًا عندما رأى أنّها غير محبوبة، أمّا راحيل فجعلها عاقرًا. وعندما أنجبت ليئة ابنها الأول سمّتْه رَأوبين (ومعناه: انظروا ابني)، لأنّها قالت: “رأى الله عنائي، والآن سيحبّني زوجي”. وبعد فترة أنجبت ابنها الثاني، وسمّتْه شِمعون (ومعناه: سميعٌ) لأنّها قالت: “سمع الله أنِّي غير محبوبة، فرزقَني ولدًا آخر”. وأنجبت ابنها الثالث وسمّتْه لاوي. لأنّها قالت: “الآن يُلْوَى قلب زوجي نحوي، لأنّي ولَدتُ ثلاثة أولاد”. وأنجبت ولدًا رابعًا، سمّتْه يَهوذا (ومعناه: الحمد)، لأنّها قالت: “هذه المرّة أحمد الله”. وبعدها توقّفت عن الإنجاب.

يعقوب يُرزق بمزيد من الأولاد

ولمّا رأت راحيل أنّها لم تنجب ليعقوب (عليه السّلام) غارت من أُختها والتمست منه قائلة: “سأموت إن لم تعطني أولادا!” فاغتاظ يعقوب (عليه السّلام) على راحيل قائلا: “إنّما الأولاد من الله، لا منّي! هو الّذي حرمكِ الإنجاب”. فأجابته: “اتّخذ جاريتي بِلْهة زوجةً لك، ومن خلالها أرزق أنا أيضًا بأولاد”. وهكذا قدّمت راحيل جاريتها بِلْهة زوجةً ليعقوب، فأنجبت له ولدًا. فقالت راحيل: “حكم الله لصالحي! نعم، سمع دعائي ورزقني ولدًا”. وسمّتْه دان (ومعناه: حَكَمَ). وأنجبت جارية راحيل ولدًا ثانيًا، فقالت راحيل: “صارعتُ أُختي صراعًا عظيما وغلبتُ”. وسمّتْه نَفتالي (ومعناه: مصارعتي). وفي الآن نفسه رأت لَيئة أنّها توقّفت عن الإنجاب، فزوّجت جاريتَها زِلفة ليعقوب (عليه السّلام). فأنجبت له ولدًا، فقالت لَيئة: “جيّد! كم أنا محظوظة!” وسمّتْه جاد. وبعد ذلك ولدت زِلفةُ ولدًا ثانيًا ليعقوب (عليه السّلام)، فقالت لَيئة: “يا لفرحي وسروري، ستُهَنّئُني جميع النساء”. وسمّتْه أشير (ومعناه: سعادة). وفي أحد أيّام حصاد الحنطة خرج رَأوبين إلى الحقول فوجد بعض نبات اللُّفّاح فجاء به إلى أُمّه لَيئة. فقالت راحيل لِلَيئة: “أعطيني من لفّاح ابنك”. فقالت لها: “أما كفاكِ أن أخذت زوجي؟ هل تأخذين لُفّاح ابني أيضًا؟”(٢ فقالت راحيل: “إذا أعطيتني لُفّاح ابنك، ينام يعقوب عندك الليلة!” وعند الغروب، عاد النبي يعقوب من البوادي، فخرجت لَيئة للقائه قائلة: “ستنام عندي الليلة، لأنّي استأجرتك بلفّاح ابني!” فنام عندها تلك الليلة. واستجاب الله لدعاء لَيئة فأنجبت ليعقوب ولدًا خامسًا، فقالت: “جزاني اللهُ خيرًا لأنّي أعطيت جاريتي لزوجي”. وسمّتْه يَسَّاكر، ومعناه: الله يجازيه. وأنجبت لَيئة ابنًا سادسًا فقالت: “لقد أكرمني الله فمنّ عليّ بأولاد، والآن يكرّمني زوجي لأنِّي أنجبت له من الأولاد ستّةَ”. وسمّتْه زَبولون ومعناه: تكريم. ثمّ أنجبت بنتًا سمّتها دينة. وكان الله رحيمًا براحيل فاستجاب لدعائها وجعلها قادرة على الإنجاب، فحبلت وأنجبت ابنًا فقالت: “لقد أزال الله ذلّي”. وسمّتْه يوسُف ومعناه “يضيف” وقالت: “ليرزقني الله ولدًا آخر”.

هروب يعقوب

وبلغ يعقوب (عليه السّلام) أنّ أبناء لابان يردّدون: “لقَد أخذ يعقوب كل أملاك أبينا، وبهذه الطريقة جمع ثروته”. ولاحظ النبي يعقوب أنّ معاملة لابان له قد تغيّرت ولم تعد كما كانت من قبل. فأوحى الله إلى نبيه: “عد إلى أهلك في بلادك وأكون معك خير حافظ”. فاستدعى يعقوب (عليه السّلام) راحيل ولَيئة إلى البادية حيث توجد قطعانه، وقال لهما: “لقد لاحظتُ أنّ معاملة أبيكما لي قد تغيّرت، ولم تعد كما كانت من قبل. ولكنّ الله الّذي يعبده أجدادي كان معي خير حافظ. وأنتما تعرِفان أنّي خدمتُ أباكما بكلّ طاقتي، ولكنّه غدر بي وغيّر أُجرتي عشر مرّات. غير أنّ الله لم يسمح له بإيذائي. فعندما قال: “سأجعل أُجرتك غنمًا رقطاء”. ولدت كلّها غنمًا رقطاء. وعندما قال: “سأجعل أُجرتك غنما ذات خطوط” ولدت كلّها غنمًا ذات خطوط. وهكذا جعل الله مواشي أبيكما لي. وعندما حان وقت تزاوج الأغنام، رأيتُ رؤيا في منامي، وفيها تتزاوج كلّ الذكور مع الأغنام المخططة والرقطاء البلقاء. ثمّ هتف إليّ ملاكٌ: “يا يعقوب!” فأجبت: لَبَّيك، لَبَّيك! فقال: “اُنظر، هذه الذّكور كلّها تتزاوج مع الغنم ذات الخطوط والنقط والبقع، فقدْ رأيتُ ما فعله لابان بك. وقد أرسلني الله لأخبرك بما قاله تعالى: ‘أنا الله وقد تجلّيت لك في بيت إيل حيث نصبتَ عمودًا تذكاريًّا ومسحتَه بالزّيت إكرامًا لي، ونذرتَ هنالك لي نذرًا. والآن عليك أن تغادر هذه الأرض وتعود إلى الأرض الّتي ولدت فيها'”. فأجابتْ راحيلُ ولَيئةُ يعقوب (عليه السّلام): “نحن لا نملك نصيبًا من ميراث أبينا. وهو يعاملنا كغريبتين، قبض مهر زواجنا(٤ وتخلّى عنّا دون اكتراث! وكلّ الثروة الّتي أخذها الله مِن أبينا وجعلها من نصيبك هي حقّنا وحقّ أبنائنا، فاعملْ بكلِّ ما أمرك به الله تعالى”. فأركب النبي يعقوب أولاده وزوجاته على الجمال، وساق كلّ مواشيه وكلّ ما حصل عليه واقتناه في بلاد ما بين النهرين في سوريا، واتّجه إلى أبيه إسحَق في بلاد كنعان. وكان لابانُ يجزّ غنمه بعيدًا عنهم، فاغتنمت راحيلُ الفرصة وسرقت منه تماثيله الصغيرة التي كان يتبارك بها.(٥ واستغفل يعقوب (عليه السّلام) لابان لأنّه رحل دون أن يخبره برحيله. فأخذ كلّ ما يَملك وعبر نهر الفُرات وتوجّه إلى منطقة جِلعاد الجبليّة في المرتفعات شرق نهر الأردنّ.

لابان يلحق بيعقوب

وبعد ثلاثة أيام بلغ لابان أنّ النبي يعقوب قد رحل، فجمع أَقاربه وانطلق معهم يطارد يعقوب (عليه السّلام) سبعة أيّام حتّى لحق به في منطقة جِلعاد، وفي الليلة التي تفصل وصول لابان إلى يعقوب، أرسل الله إليه تحذيرا في منامه: “دع يعقوب وشأنه!” ولحق لابانُ بالنبي يعقوب الّذي نصب خيمته في الجبل، ونصب لابان وأقاربه خيمتهم هناك أيضا. وقال لابان ليعقوب (عليه السّلام): “لماذا تسلّلتَ من عندنا في غفلة منّا بتلك الطريقة؟ وكيف تجرأتَ وسقتَ بنتَيّ كما تساق سَبايا الحرب؟ لماذا هربتَ خفيةً وتسلّلتَ ولم تخبرني؟ لو أخبرتني برحيلك لودعتك في احتفال بهيج بالأغاني وبالدّفّ والعود. ثمّ إنّك لم تدعني أودّع أحفادي وبنتَيّ. لقد تصرّفتَ يا يعقوب بغباء. وباستطاعتي إيذاؤك، غير أنّ ربّ أبيك حذّرني البارحة في المنام وقال: “دع يعقوب وشأنه”. وأعرف أنّك رحلتَ من عندي لأنّك اشتقت إلى أهل بيتك، ولكن لماذا سرقت تماثيلي الصغيرة التي أتبارك بها؟” فأجابه يعقوب (عليه السّلام): “أمّا رحيلي دون علمك فقَدْ خفتُ أن تأخذ بنتيْك منّي غصبًا. وأمّا تماثيلك الصغيرة، فابحث عنها، فإذا وجدت شيئًا يخصّك مع أحدنا فخذه، وقدّمه دليلاً أمام الحاضرين ويكون عقاب سارقه الموت!” وكان النبي يعقوب لا يعرف أنّ راحيل هي الّتي سرقت تماثيل لابان. فدخل لابان خيمة النبي يعقوب وخيمة لَيئة وخيمة الجاريتَين، فَما وجد شيئًا. وخرج من خيمة لَيئة ودخل خيمة راحيل. وكانت راحيل قد أخذت التماثيل ووضعتها في رَحل الجمل وجلست فوقها. ففتّش لابان الخيمة كلّها، فما وجد شيئًا، وقالت راحيل لأبيها: “لا تغضب منّي يا أَبي، فإنّي لا أستطيع النهوض، فقد فاجأتني عادة النساء.” ولم يجد لابان التماثيل الّتي كان يفتّش عنها. فاغتاظ النبي يعقوب وعاتب لابان قائلا: “ما هي جريمتي تحديدًا؟ ماذا فعلتُ حتّى تطاردني كأنّي مجرم؟ لقد فتّشتَ جميع أغراضي، فماذا وجدت من أغراض بيتك؟ إن وجدت شيئًا، ضعه هنا أمام رجالي ورجالك، ليحكموا بيني وبينك. لقد أقمت معك طيلة عشرين سنة، فلم تسقط مواشيك مواليدها أبدًا، ولم آكل من كباش غنمك مطلقًا. والمواشي الّتي كانت تفترسها الوحوش لم أُحضر إليك برهانًا عنها، وإنّما كنتُ أتحمّل خسارتها وحدي، وكنتَ أنت تطالبني بها، سواءٌ قصرتُ في ذلك أم لا. وكنتُ أتحمّل حرّ النّهار، وبرد اللّيل فيفارق النوم عينَيّ. لقد أقمتُ عندك عشرين عامًا وخدمتك فيها أربع عشرة سنة بدل بنتَيك وست سنوات بدل غنمك، وغيّرت أجري عشر مرّات. ولو لم يكن يؤيّدني الله الّذي عبده جدي إبراهيم، الله المهيب الّذي يتّقيه أبي إسحَق، لكنتَ صرفتني فارغ اليدين، لكنّ الله قدّر تعبي وعنائي فحكم بيننا البارحة”.

المعاهدة بين النبي يعقوب ولابان

فأجاب لابان يعقوب (عليه السّلام): “البنات بناتي، وأولادهنّ أولادي، والغنم غنمي، وكلّ ما تراه في الحقيقة ملكي، فما العمل؟ ولا حيلة لي من أجل بناتي وأبنائهنّ؟ فلنقم معاهدة بيني وبينك إذن”. وكشاهد على هذه المعاهدة، أخذ النبي يعقوبُ حجرًا ونصبه عمودًا تذكاريًا(٨ وقال لأهل بيته: “اِجمعوا حجارة”. فجمعوها وكوّموها وتشاركوا الطعام هناك وأقاموا المعاهدة. وسمّى لابان ويعقوب (عليه السّلام) هذه المعاهدة بكومة الشهادة، كلّ حسب لغته، لابان في اللغة الآرامية ويعقوب في اللغة العبرية. وقال لابان: “هذه الكومة تكون من اليوم شاهدًا بيني وبينك”. ولذلك سُمِّيت كومة الشهادة. وسُمِّيت أَيضًا المرصاد، لأنّ لابان قال: “ليكن الله بالمرصاد بيني وبينك حين يغيب أحدنا عن الآخر. فإن أسأتَ معالمةبنتيّ أو تزوّجتَ عليهما، دون أن يعلم بك أحد، كفى بالله شهيدا بيني وبينك”.(٩ وأضاف لابان: “اُنظر الكومة والعمود اللذين وضعتُهما بيني وبينكَ. هذه الكومة وهذا العمود علامتان لا يمكنني تجاوزهما لأُسيء إليك، ولا يمكنك أن تتخطّاهما لتسيء إليّ. والله الّذي آمن به جدك إبراهيم وجدي ناحور يكون حَكَمًا عادلاً بيننا”. فأقسم النبي يعقوب بالله الذي يخشاه أبوه إسحَق، وقدّم أضحية إكرامًا لله في الجبل، ودعا الجميع ليأكلوا وليمة لتدشين المعاهدة فأكلوا وباتوا هناك. وفي الغد، بكّر لابان، فقبّل أحفاده وبنتَيْه وطلب لهم بركات من الله، وانصرف متّجهًا نحو حاران.

النبي يعقوب يستعدّ للقاء العيص

ومضى يعقوب (عليه السّلام) في طريقه، فلاقته ملائكة الله، وعند رؤيتهم قال: “هنا حرستنا ملائكة الله!” وسمَّى تلك المنطقة “المقامين”. وأرسل النبي يعقوب بعض رجاله ليسبقوه إلى أخيهِ العيص في جبال سَعير في بِلاد أدوم ليتفاوضوا معه، وأوصاهم قائلاً: “قولوا لأخي العيص: يا سيّدي العيص، يقول لك يعقوب وهو تحت أمرك: لقد نزلتُ عند خالي لابان وكنت عنده إلى الآن، وأصبحت أملك كثيرًا من الخدم والدوّاب والمواشي. فرأيتُ يا سيّدي أن أُرسِل مَن يخبرك بذلك لَعلَّك ترضى عنّي”. وعاد الرجال إلى النبي يعقوب وقالوا له: “ذهبنا إلى أخيك العيص، وهو قادمٌ للقائك محاطًا بأربع مئة رجل!” فاستولى الخوف على يعقوب (عليه السّلام) وضاقت به السبل، فقسم مرافقيه وماشيته إلى فرقتين وقال في نفسه: “إن صادف وهجم العيص على إحدى الفرقتين، ربّما تنجو الأخرى”. وتضرّع يعقوب (عليه السّلام) إلى الله قائلاً: “اللهمّ، يا ربّ جدي إبراهيم وأبي إسحق، يا الله، يا مَن طلبت مني أن أعود إلى أرضي وعشيرتِي وأنت تنعم عليّ. أنا لا أستحقّ كلّ هذا الفضل والوفاء الّلذين أظهرتَهما لي أنا عبدك. فعندما عبرتُ نهر الأردنّ لم أكن أملك سوى عصاي، أَّمّا الآن فجعلتَ أهل بيتي فرقتين. يا ربّ، أرجوك أنّ تنجّيني مِن قبضة أخي العيص، فأنا أخافُ أن يهجم علينا فيقتلنا، أنا وزوجاتي وأبنائي، وأنت يا ربّ وعدتني بأنك ستنعم علي وتجعل نسلي كَرمال البحر لا يُعَدّون”. وقضى يعقوب (عليه السّلام) ليلته هناك. وانتقى من كلّ ممتلكاته هديّةً لأخيه العيص: مئتي عنز وعشرين تيسًا، ومئتي نعجة وعشرين كبشًا، وثلاثين ناقةً مُرضعةً وصغارها، وأربعين بقرةً وعشرة ثيران وعشرين أتانًا وعشرة حمير. وقسّم النبي يعقوب هذه المواشي إلى قطعان، وسلَّمها لكلّ واحد من خدّامه على حدة قائلاً: “تقدَّموا أمامي واجعلوا مسافةً بين قطيع وقطيع”. وأوصى الخادم الأوّل: “إن صادف وسألك أخي العيص: مَن يكون سيّدك وإلى أين تتّجه؟ ومَن صاحب هذا القطيع؟ فعليك أن تجيبه: هذا القطيع هدية لك يا سيّدي العيص العظيم، أرسله إليك سيّدي يعقوب وهو تحت أمرك، وسيصل لاحقًا”. وبمِثل ذلك أوصى الخادمين الثاني والثالث وبقية الرجال، كما أوصاهم أن يقولوا للعيص: “وسيصل يعقوب لاحقًا وهو تحت أمرك”. وفعل النبي يعقوب هذا لأنّه قال في نفسه: “أستعطفه أوّلاً بالهديّة الّتي تقدَّمتْني إليه، وعندما نلتقي لعلّه يرضى عنّي”. وهكذا أرسل يعقوب (عليه السّلام) الهدايا أمامه. وبات ليلته تلك في المكان نفسه.

النبي يعقوب يتنازع مع الكائن الغيبي

وقام النبي يعقوب أثناء الليل، وصحب معه زوجتَيْه وجاريتَيْه وأولاده الأحد عشر، وعبر بهم نهر يبّوق،(٣ وبعد عبورهم وكلّ ممتلكاته إلى الضفة الأخرى بقي النبي يعقوب وحده، فجاءه مَن ينازعه حتّى الفجر. ولمّا رأَى أنّه لم يتمكن من بأس النبي يعقوب، ضربه على فخذه فانخلع مفصله (عليه السّلام) أثناء المنازعة. وقال للنبي يعقوب: “دعني أذهب فقد طلع الفجر!” فأجابه يعقوب (عليه السّلام): “لن أتركك تذهب حتّى تمنحني بركة من الله”. فسأله: “ما اسمك؟” فأجابه: “اسمي يعقوب”. فقال: “لا يكون اسمك يعقوب فقط بعد الآن بل إسرائيل أيضًا، لأنّك اُبتُليتَ عند الله والناس وانتصرت”. وسأله النبي يعقوب: “أرجوك، أخبرني ما اسمك”. فقال: “لماذا تريد أن تعرف اسمي؟” ثمّ منحه بركة من الله ومضى عنه وتولّى. وسمَّى النبي يعقوب ذلك الموضع فنوئيل، وقال: “لأنّي رأيتُ تجلّيات الله مباشرةً ومع ذلك نجوتُ بِحياتي”.(٤ وبعد مغادرة فَنوئيل بقليل، أشرقت الشمس وكان يعقوب (عليه السّلام) لا يزال يعرج بسبب إصابة فخذه. لهذا السبب لا يأكل بنو إسرائيل الوتر الّذي على مفصل الفخذ إلى يومنا هذا، لأنّ النبي يعقوب ضُرب على ذلك الوتر.

لقاء النبي يعقوب والعيص

ورأى النبي يعقوب (عليه السّلام) أخاه العيص مُقبلاً عليه محاطًا بأربع مئة رجل، فوزّع أولاده بين لَيئة وراحيل والجاريتَين. وجعل الجاريتَين وأولادهما في المقدّمة، يليهما لَيئة وأولادها، وجعل راحيل ويوسف (عليه السّلام) في آخر الموكب. أمّا هو فتقدَّمهم جميعًا وانحنى على الأرض سبع مرّات إلى أن اقترب من أخيه.(٦ فأسرع العيص إلى لقائه وعانقه وضمّه إلى صدره وقبَّله، وبكيا معا. ونظر العيص حوله فرأى النساء والأولاد، فقال: “مَن هؤلاء الّذين يرافقونك؟” فأجاب يعقوب (عليه السّلام): “هم أبنائي الّذين أنعم الله بهم عليّ يا سيّدي”. فتقدَّمت الجاريتان وأولادهما وانحنوا أمام العيص احترامًا له. وكذلك فعلت لَيئة وأولادها ويوسف (عليه السّلام) وأمه راحيل. فقال العيص ليعقوب (عليه السّلام): “ما الّذي أردتَه مِن كلّ هذه القطعان الّتي أرسلتها لي؟” فأجابه يعقوب: “لا أطلب من سيّدي سوى رضاك”. فأجابه العيص: “إنّي أملك منها الكثير يا أخي فاحتفظ بها لنفسك”. فأجاب النبي يعقوب: “كلاّ. إن كنتُ قد حظيتُ برِضاك، فأرجوك أن تقبَل هديّتي. وأروع ما عندي أن أرى وجهك المبتسم، إنّي أراه كأنّما أرى الرضا من وجه الله! أرجوك أن تقْبَل عطيَّتي فهي بمثابة البركة.(٧ فقد رزقني الله كثيرًا، وأملك كلّ شيء” فأصرّ عليه حتّى قبل منه هديته.

فراق النبي يعقوب والعيص

وقال العيص ليعقوب (عليه السّلام): “لنرحل من هنا وسأَسير أمامك وأفسح لك الطريق”. فأجابه النبي يعقوب: “كما ترى، يا سيّدي، إنّ أولادي صغارٌ، والأغنام والأبقار كلّها مُرضعةٌ، فإن أجهدتُها في السير، يومًا واحدًا، ماتت كلّها. فتقدَّمْني يا سيّدي، وأنا أتبعك على مهل حسب طاقة الأولاد والماشية، إلى أن ألحق بك في سَعير”. فأجابه العيص: “إذن، سأترك بعض رجالي ليرافقوك ويحموك”. فقال يعقوب (عليه السّلام): “لا داعي لكلّ هذا! تكفيني مرضاتك يا سيّدي”. فعاد العيص أدراجه في ذلك اليوم إلى سَعير أمّا النبي يعقوب فرجع إلى سُكُّوت، وبنى لنفسه بيتًا ونصب لماشيته مِظلات ولذلك سُمّي المكان سُكُّوت (ومعناه مظلات).

وصول النبي يعقوب إلى شكيم

ثمّ جاء يعقوب (عليه السّلام) سالمًا من بلاد آرام الواقعة بين النهرين في سوريا إلى مدينة شَكيم في أرض كنعان، فنصب خيامه على مشارف المدينة. واشترى قطعةَ الأرض الّتي نصب فيها خيمته مِن بني حَمور أبي شكيم بمئة قطعة من الفضّة. وبنى مَذبحًا من الحجر لحرق القرابين إكرامًا لله وهناك تعبّد الله تعالى، وسمّى هذا المكان: “مقام الله الّذي يعبده إسرائيل”.

ولادة بنيمين ووفاة راحيل

واتّجه يعقوب (عليه السّلام) مع أهله من بيت إيل في اتجاه قرية بيت لحم في إقليم أفراتة، وبينما هم على مسافة منها، فاجأ المخاض راحيل فتعسَّرت عليها الولادة. وأثناء ولادتها العسيرة، خاطبتها القابلة: “لا تخافي. إنّكِ تنجبين ابنًا آخر”. وكانت راحيل توشك على الموت لكنّها دعت ابنها في أَنفاسها الأخيرة بن أُوني (ومعناه: ابن معاناتي) أمّا أبوه فدعاه بِنيَمين (ومعناه: ابن يميني). وتوفّيت راحيل ودُفنت في طريق أفراتَةَ، في منطقة بيت لحم، ونصب النبي يعقوب عمودًا تذكاريّا على قبرها، وهو موجودٌ إلى يومنا هذا.

وفاة إسحق

وهؤلاء أبناء النبي يعقوب الاثنا عشر (عليه السلام) الذين صاروا أسباط بني إسرائيل الاثني عشر: أبناؤه من لَيئة: رأوبين بكر يعقوب، وشِمعون ولاوي ويَهوذا ويسّاكَر وزَبولون، وابناه من راحيل: يوسف (عليه السّلام) وبنيمين، وابناه من بِلْهَةَ، جارية راحيل: دان ونفتالي، وابناه من زِلْفَةَ، جارية لَيئَة: جاد وأَشير. وهؤلاء جميعًا أبناء النبي يعقوب الَّذين رُزق بهم في بلاد آرام ما بين النهرين في سوريا. وعاد النبي يعقوب إلى أبيه إسحق عند مَمرا قرب قرية أربع، أي ما يُعرف بحَبرون، حيث عاش النبي إبراهيم والنبي إسحق هناك حياة المغتربين. وكان النبي إسحق قد بلغ من العمر مِئة وثمانين عندما أسلم روحه وانضمّ بحُسن الخاتمة إلَى أسلافه الراحلين. ودفنه ابناه العيص والنبي يعقوب.