قصّة النبي موسى

مدخل إلى قصّة النبي موسى

عاش النبي موسى (عليه السلام) بعد وفاة النبي يوسف بـ 250 سنة تقريبا. ويحظى النبي موسى بكثير من التبجيل والاحترام في الدّيانات الإبراهيمية الثلاث، بالإضافة إلى آخرين الذين يقدّرونه كقائد ومشرّع. ويأتي ذكره 502 مرّة في القرآن الكريم.
ولد النبي موسى عندما لم يعد بنو يعقوب مرحّبا بهم وقلّ الاحترام الذي كانوا يلاقونه في مصر زمن يوسف (عليه السلام)، بل رأى فيهم فرعون احتمال الخطر بسبب تزايد أعدادهم واحتمال انضمامهم إلى صفوف أعداء مصر. فأصدر فرعون مرسوما يأمر فيه بقتل حديثي الولادة من ذكور بني يعقوب، غير أن المؤرخ اليعقوبي لاحظ ما يلي: “وأوحى الله إلى أمّ موسى أن اعملي تابوتا ثم ضعيه فيه وأخرجيه ليلا فاطرحيه في نيل مصر. ففعلت ذلك وضربته الريح فطرحته إلى الساحل.”
وجاء في التوراة أن ابنة فرعون وجدت الطفل وتبنّته ابنا لها. وعندما بلغ الرشد ظنّ أن إخوته من بني يعقوب سيدركون أن الله أرسله لإنقاذ قومه من العبودية، لكنّهم لم يدركوا ذلك. وحاول النبي موسى إنقاذ أحد أبناء شعبه من الأذى إلاّ أنّه قتل مصريا عن غير قصد، فاضطر إلى الفرار هاربا إلى بلاد مِديَن حيث أقام هناك 40 سنة واشتغل راعيا عند يثرون (ويظنّ البعض أنه شعيب المذكور في القرآن)، وتزوج ابنته صفورة.
وفي الصحراء، تجلّى الله لموسى وسط قبس من النّار في عليقة، ودعاه تعالى إلى العودة إلى مصر من أجل إنقاذ قومه، إلاّ أن النبي موسى اعترض قائلا أنه لا يستطيع التكلّم بفصاحة، فاختار الله أخاه هارون ناطقا نيابة عنه. وأجرى الله عشر آفات على يدي النبي موسي ليظهر أنّه ربّ العالمين وأنّ يده فوق كلّ الآلهة والأصنام التي عبدها المصريون. وفي النهاية أخرج النبي موسى بني يعقوب من مصر عابرين للبحر الأحمر. فأنقذهم الله وأهلك جيش فرعون كما جاء في سورة البقرة الآية 50: ﴿وَإِذ فَرَقنا بِكُمُ البَحرَ فَأَنجَيناكُم وَأَغرَقنا آلَ فِرعَونَ وَأَنتُم تَنظُرونَ﴾.
ومن هناك قاد النبي موسى بني يعقوب إلى صحراء سيناء، وعند جبل سيناء أنزل الله إليهم الوصايا العشر، وغيرها من وصايا الشريعة، غير أنّهم جحدوا هداية الله لهم متعنّتين فجعلهم الله يتيهون في الصحراء أربعين سنة. وجاء في القرآن بخصوص أرض كنعان: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [سورة المائدة: 26]. وفي نهاية هذه الفترة توفي النبي موسى في جبل نيبو في مرتفعات الضفة الشرقية لنهر الأردن فلم يدخل أرض الميعاد.
ويمكننا أن نرى من خلال قصة النبي موسى عناية الله بقوم ميثاقه، فالله تعالى قادر أن ينجيهم من الأذى، ونرى أيضا كيف أن الله يريد أن يكشف عن ذاته للعالمين حتى يتركوا عبادة الأصنام ليعبدوا الله الواحد الأحد الذي لا شريك له. ومن خلال إعطاء الشريعة أخذ الله عباده من مفاهيمهم الأخلاقية المحدودة إلى مفاهيم أخلاقية أرقى وأسمى. فوردت في الإنجيل الخطب الخمس الكبرى للسيد المسيح (الإنجيل، متّى الفصول 5 و 6 و 7 و 8؛ والفصل 10؛ والفصل 13؛ والفصل 18؛ والفصلين 24 و 25) التي تساوي أسفار النبي موسى الخمسة، وبتقديم هذه الخطب الخمس يلمّح الإنجيل إلى أنّ السيد المسيح يكون الرسول المنتظر الذي أشار إليه النبي موسى عندما قال إنّه سيأتي رسول مثله من شعبه (انظر سفر التثنية 18: 15)، وأنّ تعاليم السيد المسيح تحقّق مقاصد الله للتوراة.
وفي التوراة وهب الله البصير العليم لقوم موسى نظاما للقرابين والأضاحي في بيت الله كوسيلة للحصول على المغفرة حين أخطؤوا سهوا. ومع ذلك لم يكن بمقدور هذا النظام الذي يشرف عليه رجال الدين الأحبار أن يجعل العابدين مقبولين نهائيا، فكما جاء في الإنجيل: ((ومن الواضح أنّ هذه الأضاحي والقرابين لا يمكنها أن تطهّر ضمائر العابدين)) [الإنجيل، رسالة العبرانيين 9: 9].
لهذا السبب وعد الله بعد زمن النبي موسى على لسان نبيه إرميا أنّه سينقش شريعته على قلوب المؤمنين وهذا ما تحقّق في عصر السيد المسيح.

قصّة النبي موسى

اضطهاد بني يعقوب في مصر

انتقل النبي يعقوب (عليه السّلام) إلى مصر مع جميع أبنائه وأحفاده السبعون. وأبناؤه هم: رَأُوبين، شِمْعون، لاوي، يَهوذا، يَسّاكَر، زَبولون، بِنْيمين، دان، نَفْتالي، جاد، وأشير. ورحل كلّ منهم مع أهل بيته. وكان يوسف (عليه السّلام) في مصر عندما انتقل إليه يعقوب (عليه السّلام). ومع مرور الزمن توفّي النبي يوسف وجميع إخوته وانقضى سائر جيله. وازداد في المقابل عدد بني يعقوب فتكاثروا وعظُم شأنهم فتواجدوا في كل أطراف أرض مصر.
واعتلى بعد فترة ملك جديد عرش مصر. ولم يكن هذا الملك يعرف شيئًا عن النبي يوسف، ولا عن الخير الذي جلبه إلى مصر. فقال لشعبه: “انظروا، إنّ بني يعقوب يفوقوننا عددًا ألا ترون أنهم صاروا أقوى منّا؟! فعلينا أن نتعامل معهم بدهاء وحيلة، لئلاَّ يزداد عددهم أكثر. فإن لم نفعل، واندلعت حربٌ، انضموا إلى صفوف أعدائنا وحاربونا ثمّ هربوا من بلادنا”. فاستعبد المصريون بني يعقوب،(٢ وجعلوا عليهم رؤساء يُرهقونهم بأعمال شاقة، وأجبروهم على بناء مدينتَي فيثوم ورَعْمَسيس كمخازن لفرعون. ورغم الذلّ والهوان، تكاثر عددهم وانتشر، حتّى استبد الخوف بالمصريّين فاستعبدوهم بلا رحمة. وساموهم سوء العذاب بالأشغال الشاقّة في البناء وخدمة الحقول. وعاملوهم بلا رحمة.
ثمّ أمر فرعون القابلتَيْن العبرانيّتين شِفْرة وفُوعة قائلاً: “اُقْتُلا كلّ مولود ذكر تلده عبرانية، أمّا إذا كان المولود بنتًا فلا تقتلاها”. وكانت القابلتان تخشيان الله، فلم تنفّذا أمر فرعون، ولم تقتلا أي مولود. واستدعى فرعون القابلتين وسألهما: “لماذا تركتما الأولاد أحياء؟”
فأجابتا: “إنّ العبرانيّات نساء لا كالنساء المصريّات، إنّهنّ قويّات، يلدن بسرعة قبل وصولنا إليهنّ”. وكَثُرَ بنو يعقوب وعَظُمَ شأنهم. وأحسن الله إلى القابلتين، لأنّهما كانتا تخافانه، ورَزق كلَّ واحدة منهما عيال. فأمر فرعون شعبه قائلاً: “اطرحوا في النّهر كلَّ ذَكَرٍ عبراني يولد، ودعوا البنات أحياء”.

(ولادة موسى (عليه السّلام

وكان أن تزوّج في هذا الوقت رجلٌ اسمه عِمران بامرأة تُدعى يُوكابَد وهما من قبيلة لاوي، فحبلت منه ورُزقت ولدا. ورأت أنّه حسن المنظر فأخفَتْه عن عيون فرعون ثلاثة أشهر. ولمّا عجزت عن إخفائه، أخذت سلّةً من البَرديّ وطلتها بالقطران والقار ووضعت الطفل فيها وألقتها بين الحلفاء، على ضفة النّهر.(٥ ووقفت أُخته من بعيد ترقبه. فإذا بابنة فرعون نازلة إلى النّهر تستحمّ، وكانت مرفوقة بوصيفاتها، فرأت السلّة بين الحلفاء، فطلبت من إحدى وصيفاتها أن تجلبها إليها. ولمّا فتحتها ابنة فرعون وجدت طفلاً يبكي، فرقّ قلبها وقالت: “لا شكّ أنّ هذا الطفل من أولاد العبرانيّين”. واقتربت أُخت الطفل من بنت فرعون وقالت لها: “هل أدلّك على امرأة من العبرانيّات ترضع لك الطفل؟”(٦ فأجابَتْها ابنة فرعون: “نعم، أسرعي وأحضريها إلى هنا!” فغادرت الفتاة وأحضرت معها أُمَّ الطّفل. فقالت لها ابنة فرعون: “أرضعي هذا الطّفل، وأجرك على ذلك عندي”. ففعلت المرأةُ كما طلبت منها بنت فرعون. ولمّا كبُرَ الولد، جاءت به إلى ابنة فرعون فاتّخذته ابنًا لها وسمّته موسى، وفسّرت هذا الاسم بقولها: “لأنّي انتشلتُهُ من الماء”.

موسى (عليه السّلام) يهرب إلى مِديَن

وكبر موسى (عليه السّلام) واشتدّ، وخرج ذات يوم يزور قومه فرآهم في عناء عظيم لِما يقومون به من أعمال شاقة، ورأى رجلاً مصريًّا يضرب رجلاً عِبرانيًّا من بني قومه. فالتفت يمينًا وشمالاً فما رأى أحدًا، فوكز المصريّ وقضى عليه، ثمّ طمره في الرّمل. وفي اليوم التالي زار موسى (عليه السّلام) قومه مرّة أخرى، فرأى رجلَين عبرانيّين يقتتلان، فقال للمُعتدي: “لماذا تقاتل أخاك؟” فأجابه: “ومَن أقامك علينا ملكًا وحاكمًا؟ أتريد أن تقتلني كما قتلتَ المصريّ بالأمس؟” فخاف موسى (عليه السّلام) وقال في نفسه: “لقد شاع بين الناس ما اقترفت يداي”. وبلغ فرعون هذا الخبر، فسعى إلى قتله. فهرب موسى (عليه السّلام) مِن فرعون وتوجّه إلى أرض مِدْيَن، وعند وصوله جلس عند البئر.
وكان في مِديَن رجل دين يدعى يَثرون، لديه سبع بناتٍ، وكنّ عند البئر يملأن الأحواض حتّى تشرب غنم أبيهنّ. وأتى بعض الرُّعاة الذين دأبوا على طرد البنات من هناك، فطردوهنّ، لكنّ موسى (عليه السّلام) هبّ إلى نجدتهنّ وسقى غنمهنّ. وعند رجوعهنّ إلى أبيهنّ قال لهنّ: “كيف عدتن بهذه السرعة اليوم؟” فأجبن: “لقد أنقذنا من الرّعاة رجل مصريّ، وملأ الأحواض وسقى غنمنا”. فقاطعهنّ قائلاً: “وأين الرجل الآن؟ ولماذا تركتُنَّه هناك؟ ادعونه على الطعام!”
فقبل موسى (عليه السّلام) الدعوة وأقام عند يَثرون، وبعد فترة زوّجه من ابنته صَفّورة. فأنجبت له ولدًا، سمّاه موسى (عليه السّلام) جِرشوم، وفسّر هذا الاسم لأنّه رأى نفسه نزيلا في أرض غريبة.
وبعد زمن طويل، توفّي فرعون، وظلّ بنو يعقوب يئِنّون مِن العبوديّة، وبسببها تضرّعوا ورفعوا صراخهم إلى الله. فسمع الله أنينهم، وحفظ عهده تعالى مع إبراهيم وإسحق ويعقوب (عليهم السلام). وكان الله بمعاناة بني يعقوب عليما بصيرا.

النبي موسى كليم الله

وكان موسى (عليه السّلام) يرعى غنم حَميهِ يَثرون وهو رجل دين لمِديَن، فساق الغنم إلى جهة بعيدة في البادية حتّى وصل إلى جبل الله، طور سيناء. فتجلّى له ملاك من الله في جذوة من نار وسط شجيرة.(٧ ورأى موسى (عليه السّلام) الشجيرة تتّقد نارًا ولا تحترق. فقال في نفسه: “لأقتربنّ من هذا المشهد العجيب ولأشاهدنّه من قريب، أتشتعل النار في هذه الشجيرة ولا تأكلها؟” وعندما اقترب (عليه السّلام) لينظر، خاطبه صوت الله من وسط الشجيرة:(٨ “يا موسى”. فقال: “لَبَّيك”. قال: “يا موسى تريّث ولا تقترب من هنا. اخلع نعلَيْك، إنّك في أرض مقدّسة”.(٩ وأضاف: “إنّي أنا ربُّك وربُّ آبائك الأوّلين، ربُّ إبراهيم وإسحق ويعقوب”. فستر النبي موسى وجهه رهبة وخشوعا من رؤية تجليات الله.
فأوحى الله إليه: “إنّي بمعاناة قوم ميثاقي في مصر بصير، ولدعواتهم وصراخهم بسبب ظلم مشرفيهم سميع خبير. أجل، إنّي بمعاناتهم عليم، وتجلّيتُ لأُنقذهم من قبضة المصريّين. وأُخرجهم من هناك إلى أرض واسعة تفيض لبنًا وعسلاً، حيث بلاد الكنعانيّين والحِثّيّين والأموريّين والفَرِزّيّين والحِوّيّين واليَبوسيّين. نعم، إنّي بتضرّع بني يعقوب إليّ سميع، وبجور المصريّين عليهم بصير، وإنّي لمُرسلُك الآن إلى فرعون لتُخرج قوم ميثاقي بني يعقوب من مصر”. فقال موسى (عليه السّلام): “مَن أنا حتّى أقف في وجه فرعون وأُخرج بني يعقوب من مصر؟” فقال تعالى: “أنا أكون معك خير حافظ، وسأعطيك علامة على أنّي من أرسلك: ومتى أخرجتَ قوم ميثاقي من مصر، ستعبدوني على هذا الجبل”.
وتردّد النبي موسى (عليه السّلام) قائلاً: “إذا ذهبتُ إلى بني يعقوب وقلتُ لهم أنّ الله ربّ آبائهم هو الذي أرسلني إليهم، فإنْ سألوني ما اسمه، فماذا أجيب؟” فأوحى اللهُ إليه: “إنّي أنا هو. كذلك تجيب بني يعقوب: “إنّ هو الذي أرسلني إليكم””.
وأوحى الله إلى النبي موسى أن يخبر بني يعقوب: “إنّ الله ربّ آبائكم الأوّلين، ربّ إبراهيم وإسحَق ويعقوب، أجل إنّ الله هو الذي أرسلني إليكم”. قال الله تعالى: “هذا هو اسمي إلى الأبد، بهذا الاسم ارفعوا ذكري جيلاً بعد جيل. والآن يا موسى، اذهب واجمع شيوخ بني إسرائيل وأخبرهم، أنّي ربّ آبائهم الأوّلين، ربّ إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد تجلّيتُ وأوحيتُ إليك بأنّي بكم رقيب وبكلّ ما ارتكبه المصريّون في حقّهم بصير. ولقد وعدتُ أن أخرجهم من مصر حيث يعانون الذّلّ. وسأرشدهم إلى أرض تفيض لبنًا وعسلاً، أرض الكنعانيّين والحثّيّين والأموريّين والفَرزّيّين والحِوّيّين واليَبوسيّين. وإنّ شيوخ بني يعقوب سيصغون إليك وسيرافقونك إلى فرعون فتعلمونه أنّ الله ربّنا قد تجلّى لنا، فدعنا الآن نمضي في الصّحراء ثلاثة أيّام، نُقدِّم فيها الأضاحي لله ربّنا. وإنّ فرعون لمانعكم من الخروج من مصر، وما هو بمخرجكم إلا خضع لقوّة جبّارة. لذلك سأضرب مصر بالآفات وأظهر فيها المعجزات، وبعد ذلك سيُطلقكم من مصر. وسأجعل المصريّين عليكم راضين. فيعطونكم هدايا حتّى لا تغادروا مصر وأيديكم فارغة. ولتستوهبنّ كلُّ امرأة عِبرانيّة من جارتها ومِن النّازلة في بيتها ثيابًا وجواهر من ذهب وفضّة، فتُلبسونها أولادكم وبناتكم. فتنتصفون من المصريين”.

النبي موسى ومعجزاته

فتردّد النبي موسى مرّة أخرى وقال لله: “فإن لم يصدّقني بني يعقوب ولم يتبعوا كلامي، بل أجابوني: ما كان الله ليتجلّى لك”. فأوحى الله إليه: “ما تلك التي في يمينك؟” قال: “إنها عصاي”. فجاء الأمر الإلهيّ: “ألقِها يا موسى”. فألقى موسى (عليه السّلام) العصا فتحوّلت حيّة تسعى. فارتعب منها موسى وعنها تولّى. فأمره تعالى مرّة أخرى: “مُدّ يدك يا موسى ولا تخف”. فمدّ يده وأمسكها من ذيلها، فعادت عصًا. وأوصاه الله: “أظهر لهم هذه المعجزة ليُصدِّقوا أنّ الله بينهم تجلّى، وأنّي ربّ آبائهم الأوّلين، ربّ إبراهيم وإسحق ويعقوب. ولك يا موسى معجزة أخرى، أدخِلْ يدك في جيبك وسترى”. فأدخل يده إلى جيبه ثمّ أخرجها، فإذا هي بيضاء كالثّلج من غير سوء البرص.(٣ فقال تعالى: “رُدّ يدك إلى جيبك”. فردّ يده إلى جيبه ثمّ أخرجها فعادت كسائر أعضاء جسمه. وقال الله: “إن كانوا لا يصدّقونك ولا يقتنعون بالمعجزة الأُولى، فبالمعجزة الثّانية يؤمنون. وإن كانوا لا يصدّقون هاتين المعجزتين ولا ينتبهون لكلامك، فخُذْ ماءً من النيل واسكُبْه على الأرض، فيصير الماء دمًا بإذني”.

هارون (عليه السّلام) يتكلم نيابة عن النبي موسى

فتضرّع النبي موسى لله: “عُذرا يا ربُّ! إنّك عليم، أنّي لستُ فصيحا ولساني فيه عُقدة تواصلت معي حتّى بعد أن كلّفتني بهذه الرسالة”.(٥ فسأله الله: “مَن الذي جعل للإنسان فما؟ ومن الّذي جعل الإنسان أخرس أو أصمّ أو بصيرًا أو أعمى؟ أليس الله؟ فاذهبْ وسأكون معك سندا حين تنطق وأرشدك إلى ما تقول”. فقال موسى (عليه السّلام): “أرجوك ربي! أرسل إلى فرعون رجلا غيري”. فاحتدم غضب الله على النبي موسى وأوحى إليه: “يا موسى، ألا تذكر أخاك هارون اللاَّويّ؟ إنّه فصيح اللّسان وهو قادم إلى لقائك الآن، وسينشرح قلبه كثيرا حين يراك. فأخبره بما تريد أن تنطق به وسيعبّر عنه أمام الملإ، وأنا أدلّكما على ما تفعلانه. إنّا جعلناك رسولا مبلّغا لرسالتنا، وجعلنا هارون وزيرا لك نبيا يخاطب الناس بكلام الله نيابة عنك.(٦ فاحمل عصاك بيمينك، وعلى يديك تجري بها المعجزات”.

عودة النبي موسى إلى مصر

فعاد موسى (عليه السّلام) إلى حميه يَثرون وقال له: “دَعْني أعود إلى قومي في مصر، فأنا لا أعلم إن كانوا بعد أحياء أم قضوا”. فأجابه يَثرون: “اذهب في أمان الله”. وقبل أن يغادر النبي موسى مِدْيَن، أوحى الله إليه: “آن الأوان كي تعود إلى مصر، لأنّ جميع الّذين يسعون إلى قتلك قد قضوا”. فأخذ النبي موسى معه عصا اللهِ وأركب زوجته وولدَيه دابة وقفلوا عائدين إلى مصر.
ونبّه الله موسى (عليه السّلام) قائلا: “عندما تصل إلى مصر، اذهب إلى فرعون وقم بجميع المعجزات أمامه، تلك الّتي أجريتها على يديك. وسأجعله يتمادى في عناده فلا يُطلق قومك.(٨ وعليك أن تخبر فرعون أنّ الله تعالى يقول: “بنو يعقوب عيالي الشرفاء. وإنّا أمرناك أَن تُطلق عيالي ليعبدوني، ولكنّك رفضتَ. لذلك سنهلك أوّل أبنائك وأشرفهم”.

لقاء النبي موسى وأخيه هارون

وكان الله قد أوحى إلى هارون (عليه السّلام) أن يتّجه إلى الصّحراء لاستقبال أخيه موسى. فوجده عند سفح جبل الله ورحّب به وقبّله. فأخبر النبي موسى هارون بكلّ ما أوحاه الله إليه، وأنه رسولٌ إلى فرعون، وأعلمه بجميع المعجزات الّتي عليه أن يظهرها. فذهب موسى وهارون (عليهما السلام) إلى مصر، وجمعا شيوخ بني يعقوب كلَّهم. وخاطبهم هارون بجميع ما أوحى الله به إلى أخيه موسى. ثمّ أنجز النبي موسى المعجزات أمام الناظرين. فآمنوا أن الله هو من أرسلهما إليهم. ولمّا سمعوا أنّ الله بصير بمعاناتهم وذلّهم، وهو يرعاهم، انحنوا له ساجدين.

النبي موسى أمام فرعون

وإثر لقاء النبي موسى وأخيه هارون بشيوخ بني يعقوب، ذهبا إلى فرعون وقالا له: “الله الذي يعبده بنو يعقوب يأمرك: أطلق عبادي الصالحين حتّى يقيموا عيدا في الصحراء إكرامًا لي.” فأجاب فرعون: “ومَن يكون الله حتّى أسمع له وأُطلق بني يعقوب؟ أنا لا أعرف الله ولن أُطلق بني يعقوب”. فأجابا: “إنّه الله الّذي يعبده العِبرانيّون، لقد تجلّى لنا، فدعنا نسير في الصحراء ثلاثة أيّام وبعدها نقدّم أضاحي لله ربّنا، حتّى لا يُنزِل علينا وباء أو حربا”. فأجابهما فرعون: “لماذا تسعيان إلى تعطيل الناس عن أعمالهم؟ عودوا إلى عملكم!” وأضاف فرعون: “انظرا إلى قومكما، إن عددهم كبير، فكيف تُعطّلانهم عن العمل؟”

فرعون يأمر المسؤولين بالقسوة

وفي ذلك اليوم قال فرعون للمسؤولين على بني يعقوب والمشرفين على تسخيرهم للعمل: “من الآن فصاعدًا، لا تعطوا العمال تبنًا لصناعة الطوب كما فعلتم سابقًا، بل اتركوهم يجمعونه بأنفسهم. ولا تنقصوا من كمية الطوب الّتي عليهم صنعها. إنّهم كسالى، ولذلك يطالبون قائلين: “دَعنا نذهب ونقدّم الأضاحي لربّنا”. أجهدوا هذه الجماعة بالعمل، فينشغلوا به ويتركوا الأكاذيب”.
فخرج المسؤولون عن بني يعقوب والمشرفون عليهم وقالوا لهم: “أمرنا فرعون أن لا نعطيكم تبنًا. عليكم أن تجمعوا التبن بأنفسكم، ولن ننقص من كمية الطوب التي عليكم صنعها”. فتفرَّق بنو يعقوب في كلّ أنحاء مصر ليجمعوا قشًّا عوض التبن، بينما كان المشرفون عليهم يستعجلونهم بشدّة قائلين: “عليكم أن تصنعوا كمية الطوب الّتي كنتم تصنعونها سابقًا”. وكان المسؤولون المصريون يجلدون المشرفين من بني يعقوب الّذين ولّوهم عليهم وهم يقولون: “لماذا لم تصنعوا كميّة الطوب المطلوبة منكم كما كنتم من قبل تفعلون؟”

المشرفون من بني يعقوب يشكون أمرهم لفرعون

فأقبل المشرفون من بني يعقوب على فرعون متوسّلين: “يا مولانا، لماذا تعاملنا بهذه القسوة ونحن في خدمتك؟ رغم أننا لا نُعطى تبنًا ولكنّ المسؤولين يطالبوننا بصنع الكميّة نفسها من الطوب الّتي تعوّدنا على صنعها! ويجلدوننا والذنب عليهم وليس علينا!” فأجابهم فرعون بصرامة: “أنتم كسالى، ولذلك تقولون: دعنا نذهب ونقدّم الأضاحي لربّنا! هيّا انصرفوا إلى عملكم! لن نعطيكم التبن، وعليكم أن تصنعوا الكميّة نفسها من الطوب!”

المشرفون من بني يعقوب يلومون النبي موسى وأخاه هارون

وعندما طلب فرعون من مشرفي بني يعقوب ألاّ ينقصوا من كميّة الطوب المطلوبة منهم يوميًا، ساءت حالهم. والتقى موسى وهارون (عليهما السلام) بمشرفي بني يعقوب حيث كانا ينتظرانهم خارج القصر، فقالوا لهما: “ليهلكنّكم الله! لقد أفسدتُما سمعتنا عند فرعون ورجال حاشيته، وصار لديهم حجّةً لقتلنا!” فتضرّع النبي موسى إلى الله قائلا: “يا ربّ، لماذا أنزلتَ الأذى على هؤلاء القوم؟ ولماذا أرسلتَني؟ فمنذ جئتُ إلى فرعون لأبلغه رسالتك، اشتدّ ظلمه عليهم وأنت لا تفعل شيئا لإنقاذهم”.
فأوحى الله إلى النبي موسى: “انظر الآن ما سأفعله بفرعون. سأجبره على إطلاق قوم ميثاقي وطردهم من بلاده، بيدٍ قديرة”. وأضاف اللهُ: “أنا الله. تجلّيت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بكشفي عن هويّتي: أنا القدير، وما كشفت لهم عن اسمي الأزلي بعد. وأقمت ميثاقي معهم فائتمنتهم على أرض كَنعان، حيث تغرّب هؤلاء الأوّلون.(٧ وإنّي بأنين بني يعقوب الّذين يعانون من اضطهاد المصريّين سميع، وإنّي لميثاقي معهم حافظ أمين. فقُلْ لهم: “أنا الله، وسأحرّركم من الذل والعبودية في مصر، وبيدٍ قديرة أبسطها لأنقذكم وأُنزل بالظالمين عقابًا رهيبًا. وأكون ربّكم وأجعلكم قوم ميثاقي، وتتيقّنون أنِّي أنا الله ربّكم الّذي حرّركم من عبوديتكم في مصر. وسأُدخلُكم الأرض الّتي وعدتُ بها إبراهيم وإسحق ويعقوب، فأهبها لكم. أنا الله”. فبلّغ النبي موسى كلام الله لبني يعقوب، ولكنّهم لم يصغوا إليه لأن اليأس أصابهم بسبب وحشية العُبوديّة الّتي يُعانونها.
فأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “واجه فرعون مَلِك مصر واطلب منه أن يُخرج بني يعقوب من أرضه”. فأجاب النبي موسى: “ولكن قومي رفضوا الإصغاء إلى كلامي، فكيف أنتظر من فرعون أن يصغي إليّ، ولا ينطلق لساني؟”(٨ فأوحى الله إلى النبي موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون ويطلبا منه تحرير بني يعقوب من مصر.

موسى وهارون (عليهما السلام) يتحاوران مع فرعون من جديد

أوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “يا موسى اِنتبه جيّدًا إلى ما يوحى إليك. إنّا جعلنا لك على فرعون سلطة من لدنّا، ويكون هارون أخوك وزيرا نبيا ينطق باسمك. أنت تبلّغه كلّ ما آمرك به، وهو يكلِّم به فرعون: اطلق بني يعقوب من مصر. ولكنِّي أجعله يتمادى في عناده، ومهما كثرتُ معجزاتي وآياتي في مصر، فلن يسمع لكما حتّى أضرب أرضِ مصر بالآفات وأُنزلُ عليها عقابا رهيبا، ثمّ أُخرج جموع عبادي بني يعقوب. وبيدٍ قديرة أبسطها أخرج بني يعقوب مِن بين المصريين، وسيعرف هؤلاء من هو الله العليّ العظيم”. فاستجاب موسى وهارون (عليهما السلام) لله وفعلا كما أمرهما تعالى. وكان عمر موسى ثمانين سنةً، وهارون ثلاث وثمانين سنةً حين واجها فرعون.

العصا تتحوّل إلى حيّة

وأوحى الله إلى موسى وهارون (عليهما السلام): “إذا طلب منكما فرعون معجزة على صدق ما تقولان، فاطلب يا موسى من هارون أن يلقي عصاه أمام فرعون فتتحوّل إلى حيّة”. فدخل موسى وهارون (عليهما السلام) على فرعون وفعلا كما أمرهما الله. وألقى هارونُ عصاه أمام فرعون وحاشيته فتحوّلت حيّة تسعى. فدعا فرعون كلّ المنجّمين والسحرة في بلاده، ففعلوا العمل ذاته بسحرهم المبين. فألقى كلُّ واحد منهم عصاه وبسحرهم صارت كلّ عصا حيّة، ولكنّ عصا هارون التهمت عصيّهم.(٢ وظلّ فرعون متعنّتا كما أوحى الله، ولم يكترث بقول موسى وهارون (عليهما السلام).

الآفة الأولى: الماء ينقلب دما

فأوحى الله إلى النبي موسى: “يا موسى، لقد تعنّت فرعون ورفض أن يُطلِق عبادي، فعليك أن تذهب في الصباح وتنتظره عندما ينزل إلى نهر النيل، وخُذ بيمينك عصاك الّتي انقلبت حيّة وقُل له: “لقد أرسلني الله الّذي يعبده العِبرانيّون، وأمرك أن تطلق عبادي ليعبدوا الله في الصحراء. ولكنّك رفضتَ الإصغاء إليه حتّى الآن. فيقول الله بهذه الآية ستعلم من هو الله. وسأضرب بالعصا التي بيميني ماء النهر فينقلب ماؤه دمًا. فيتعفّن الماء ويموت السمك، ويعاف المصريّون الشرب منه””.(٤
ثمّ أمر الله النبي موسى: “يا موسى، قُل لهارون أن يأخذ عصاك ويمُدّ يده على مياه مصر كلّها: الأنهار والتُّرع والبرك وكلّ مكانٍ يتجمّع فيه الماء، بما في ذلك من أوعية خشب وحجارة، فتصير كلّها دماء تغطي جميع أرض مصر”. ففعل موسى وهارون (عليهما السلام) كما أمرهما الله: ورفع هارون العصا وضرب ماء النهر على مشهد من فرعون وجميع رجال حاشيته، فتحوّل ماؤه دما. وتعفّن النهر ومات السّمك، ولم يقدر المصريّون أن يشربوا منه، وعمّ الدّم أرض مصر كلّها. وفعل سحرة مصر العمل ذاته بسحرهم، فظلّ فرعون متعنّتا ولم يصغ إليهما، كما أوحى الله. وعاد فرعون إلى قصره غير مُبالٍ بكلّ ما جرى معه. وحفر المصريّون عند الضفّة ليجدوا ماءً صالحًا للشرب، لأنّهم لم يستطيعوا الشرب مِن ماء النّهر. ومرّت سبعة أيّام بعدما حوّل الله النهر دما.

الآفة الثانية: الضفادع

وأوحى الله إلى النبي موسى: “يا موسى، عد إلى فرعون وأخبره أن الله يقول: “أطلق عبادي من مصر ليعبدوني. فإن أدرت ظهرك لأمري فسأُنزل الضّفادع على بلادك كلّها. ليفيضنّ النّهر بها، ولتنتشرنّ في قصرك وتغمرنّ غرفة نومك وسريرك، وبيوت رجال حاشيتك وشعبك كلّه، وتملأنّ أفرانك ومعاجنك. ولتقفزنّ الضّفادع عليك وعلى شعبك وعلى رجال حاشيتك جميعًا””.
وأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “أخبر هارون أن يمدّ يده بالعصا على الأنهار والترع والبرك وأن يجعل الضّفادع تغمر أرض مصر”. فمدّ هارون (عليه السّلام) يده على مياه مصر، فخرجت الضفادع وغطّت الأرض. وفعل العمل ذاته السّحرة بسحرهم وأخرجوا الضفادع فغطّت أرض مصر.(٦
ودعا فرعون موسى وهارون (عليهما السلام) وقال: “تضرّعا إلى الله، حتّى يرفع الضفادع عنّي وعن شعبي، فأسمح لقومكما أن يقدّموا الأضاحي لله في الصحراء”. فقال النبي موسى لفرعون: “أخبِرْني متى أدعو الله، فتخلو بيوتك من الضفادع وينحصر بقاؤها في النّهر” فأجابه فرعون: “غدًا”. فقال موسى (عليه السّلام): “نعم لك ما طلبتَ، وستعلم حينها أنّه لا إله إلاّ الله، لا شريك له، وستتطهّر بلادك من الضفادع ولا يبقى لها وجود إلاّ في النّهر”.
وغادر موسى وهارون (عليهما السلام) قصر فرعون، ثمّ تضرّع النبي موسى إلى الله ليخلّص فرعون من الضفادع الّتي أنزلها عليه. فاستجاب الله لدعائه، وماتت الضفادع في البيوت والساحات والحقول. وجمعت أكواما أكواما، وأنتنت الأرض برائحتها. فلمّا رأى فرعون أنّ الفرج قريب، تعنّت ولم يحفظ عهده لهما، كما أوحى الله إلى موسى. إنّ الله عليم خبير.

الآفة الثالثة: البعوض

فأوحى الله إلى النبي موسى: “يا موسى قل لهارون أن يمُدّ عصاه، وليضرب تراب الأرض فيتحوّل التراب بعوضًا وينتشر في أصقاع مصر”. ففعلا كما أمرهما الله، فمدّ هارون يمينه بالعصا وضرب التراب، فهجم البَعوض على النّاس والبهائم، فإذا بتراب أرض مصر كلّها يتحوّل إلى بعوض يغطّيها. وسعى السّحرة أن يأتوا بالعمل ذاته مع البعوض بسحرهم، فلم يفلحوا. وغشّى البَعوض النّاس والبهائم. فقال السّحرة لفرعون باندهاش: “إنّ هذا من عمل الله، إنه فعّال لما يريد!” وظلّ فرعون متعنّتا، وأبى أن يصغي إليهما، كما أوحى الله إلى موسى، إنّ الله عليم خبير.

الآفة الرابعة: الذباب

وأوحى الله إلى النبي موسى: “يا موسى، واجه عند الصباح فرعون حينما يكون في طريقه إلى النيل، وقُل له: “قال الله: أطلِقْ عبادي من مصر ليعبدوني. فإن أبيتَ، لأُرسِلنّ الذّباب عليك وعلى رجال حاشيتك وشعبك وليملأنّ بيوتكم، وليغطّينّ أديم الأرض الّتي أنتم فيها. أمّا أرض جاسان التي يسكنها عبادي بني يعقوب فلا يكون فيها ذبابٌ، لعلّك ترى بعين اليقين أنّ قوّتي تمتدّ إلى الأرض الّتي أنت فيها، وأني حافظ عبادي من البلاء الّذي سينزل على شعبك.(٩ وإنّ موعد هذه الآية غدا فارتقب إنّا فاعلون”. ورأى فرعون آية الله كما أخبره على لسان نبيه موسى. وهجم الذباب كالسحاب على قصر فرعون وبيوت حاشيته وغشّى أصقاع الأرض وأتلفها.
واستدعى فرعون موسى وهارون (عليهما السلام) وقال لهما: “لقد طلبتم أن تقدّموا لربّكم الأضاحي، فقدّموها في هذه الأرض لا في غيرها”. فأجابه النبي موسى: “إنّ هذا علينا لا يستقيم، إنّ المصريين لأضاحينا لكارهون، فإن قدّمناها أمامهم كانوا لنا راجمين! إنّ علينا أن نسافر كما أمرنا الله مسيرة ثلاثة أَيّام في الصّحراء، لنقدّم الأضاحي لله ربّنا”. فأجاب فرعون: “نعم، سأسمح لكم وسأُطلِقكم لتقدّموا الأضاحي لربّكم، على ألاّ تبتعدوا كثيرًا. فتضرّعا الآن إلى ربّكم حتّى يبعد عنّي هذا الذباب”. فقال النبي موسى: “سأخرج الآن لأتضرّع إلى الله، فيرفع الذباب عنك وعن رجال حاشيتك وشعبك غدًا. ولكني أنذرك: لا تخدعنا مرّةً أُخرى، فتُبقي عبادي بني يعقوب عندك وتمنعهم من تقديم الأضاحي لله”.
وخرج النبي موسى من قصر فرعون وتضرّع إلى الله أن يرفع الذباب عن مصر. واستجاب الله للنبي موسى وأزال الذباب عن فرعون وشعبه، ولم تبقَ ذبابة واحدة. ولكن فرعون تعنّت كسابق عهده، ورفض أن يُطلِق بني يعقوب من مصر.

الآفة الخامسة: موت المواشي

وأوحى الله إلى النبي موسى: “يا موسى، عد إلى فرعون مرّة أخرى وأخبره أنّ الله الذي يعبده العِبرانيّون يأمرك أن تطلق عباده ليعبدوه. فإن رفضتَ أن تطلقهم وحبستهم، فسوف يُنزل الله العظيم القدير، وباءً مميتا على مواشيك في البادية: على الخيل والحمير والجمال والبقر والغنم. وسيحمي مواشي بني يعقوب فلا تموت منها رأسٌ واحدة”. إنّ موعدكم وهذا الوباء غدا، غدا يُنزل الله العظيم القدير غضبه على المصريّين في مواشيهم. وفي الغد، تجلّى وعيد الله فهلكت جميع مواشي المصريين، أمّا مواشي بني يعقوب فلم تمت منها رأس واحدة. وأرسل فرعون مَن يتحقّق الأمر، فعلِم أنّ مواشي بني يعقوب لم يمسها مكروه. ورغم ذلك تعنّت فرعون فلم يُطلِق قوم بني يعقوب.

الآفة السادسة: القروح

أوحى الله إلى موسى وهارون (عليهما السلام): “فليأخذ كلٌّ منكما حفنةً من رماد الأتون، وليرسل الرماد في الهواء وفرعون وحاشيته ينظرون. وليتحوّلْ الرماد إلى غبار يملأ أرض مصر كلّها، فإذا غشّى الغبار أرض مصر أصيب النّاس والبهائم بدمامل ذوات بثور”. فأخذ موسى وهارون من رماد الأتون ووقفا أمام فرعون، وأرسله النبي موسى في الهواء فطلعت قروح وبُثور في النّاس والبهائم. وعجز السّحرة عن الصمود أمام النبي موسى بسبب الدمامل الّتي كانت في أجسامهم. وجعل الله فرعون يتمادى في عناده، فرفض أن يصغي لكلامهما، كما أوحى الله إلى موسى (عليه السّلام) بذلك. إنّ الله عليم خبير.

الآفة السابعة: البرد

ثمّ أوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “قم يا موسى في الصباح الباكر واذهب إلى فرعون وواجهه بأنّ الله الّذي يعبده العِبرانيّون يقول: “أطلِق عبادي ليعبدوني”، فإن تولّيتَ هذه المرّة أيضا لأُنزِلنّ مزيدا من البلايا عليك وعلى حاشيتك وشعبك، فتعلم أن لا إله إلاّ أنا وليس لي كفؤ أحد. ولقد كنت على محوك من الأرض قديرا، فأفنيك وشعبك بوباء مميت من سطح الأرض فناء مشهودا. ولكنّي أبقيتك حيًّا حتّى ترى أني أنا القويّ العظيم، وحتّى يُرفع شأني في العالمين. وها أنت تزداد على قوم ميثاقي تسلّطا وظلما، وتحبسهم في بلادك حبسا مهينا، فلأنزلنّ عليك غدًا في مثل هذا الوقت بَرَدًا شديدًا لم ير له المصريّون مثيل من يوم وجودهم إلى الآن. فامر بجمع مواشيك وكلَّ ممتلكاتك في الحقول واحشرها إلى حظائرها حشرا. وكلّ مَن يبقى في الحقل من النّاس والبهائم، ولا يلجأُ إلى المأوى، يهلك بسقوط البَرَد”. فخاف بعض ملإ فرعون عندما سمعوا ما ذكره الله، وأدخلوا على عجل خدمهم ومواشيهم إلى المأوى، وأمّا الّذين استخفّوا بكلام الله فتركوا خدّامهم ومواشيهم في الحقول فكانوا من الخاسرين.
ثمّ أوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “يا موسى، مُدّ يدك نحو السّماء فينزل في أصقاع مصر بَرَدٌ على الناس والبهائم وأعشاب الحقول كلّها”. فرفع النبي موسى عصاه نحو السّماء، فبدأ البرد بالسقوط في كلّ مكان، ودوت الرعود ونزلت الصواعق على الأرض. وكانت عاصفة لم تشهدها أرض مصر منذ عمّرها البشر، فأتلف البَرَدُ البلاد إتلافا، وأهلك كلَّ ما في الحقول من الناس والبهائم والأعشاب ودمّر كلّ الأشجار تدميرا.
وها قد تَلِفَ الكتّان من بعد أن أزهر، وفسد الشعير من بعد أن نضج وأمّا الحنطة بأنواعها فما تلفت لأنّها لم تزهر ولم تنضج.
وحفظ الله أرض جاسان حيث يسكن بنو يعقوب فلم ينزل فيها بَرَد.
فاستدعى فرعون موسى وهارون (عليهما السلام) وقال وفي صوته ذلّة المهزوم: “لقد أخطأتُ هذه المرّة. وربّكم على حقّ وأنا وشعبي على باطل. أرجوكما تضرّعا إلى الله حتّى يوقف الرّعود والبَرَد. كفى! سأُطلِقكم من مصر ولا حاجة أن تقيموا فيها بعد الآن”. فقال موسى (عليه السّلام): “حين أغادر المدينة سأرفع يديَّ إلى الله متضرّعًا، فتتوقّف الرعود وينحبس نزول البرد ولتعرفنّ عندها أنّ لله مُلك ما في الأرض جميعا. غير أنّي على يقين، أنك وحاشيتك، لله غير خاشعين”.
وترك النبي موسى بلاط فرعون وغادر المدينة، وعندما رفع يديه إلى الله بالدعاء، سكتت الرعودُ وتوقّف البَرَدُ وكفّ هطول المطر. ولمّا رأى فرعون أنّ المطر توقّف ومعه البَرَد والرعود، تعنّت مرّة أخرى هو ورجال حاشيته. فلم يُطلِق بني يعقوب من مصر، كما أوحى الله بذلك إلى موسى. إنّ الله على كلّ شيء خبير.

الآفة الثامنة: الجراد

ثمّ أوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “يا موسى، عد إلى فرعون وامره مرّة أخرى أن يطلق بني يعقوب، فأنا الذي جعلته يتمادى في عناده هو ورجال حاشيته، حتّى تجري بينهم معجزاتي، وحتّى تخبر أولادك وأحفادك عن آياتي التي تجلّت في المصريّين، فتدركون أَنّي أَنا الله العلي العظيم”.
فدخل موسى وهارون (عليهما السلام) قصر فرعون وقالا له: “إنّ الله الّذي يعبده العِبرانيّون يأمرك: حتّى متى تتعنّت ولا تستجيب لأمري أنا الله؟ أطلِق عبادي ليعبدوني، فإن تولّيتَ عن أمري، أرسلتُ غدا على بلادك جرادا. فيُغطّي وجه الأرض فلا يقدر أحدٌ منكم أن يراها، ويأكل ما سلم من البَرَد من قمح وشجر. ويجتاح بيوتك وبيوت رجالك وبيوت جميع المصريّين. إنّ الجراد عليكم كارثة لم يرى آباؤك ولا أجدادك لها مثيل منذ عمّروا هذه البلاد”. وغادر النبي موسى قصر فرعون، فسأل رجال فرعون سيّدهم قائلين: “إلى متى نظلّ ضحية هذا الرّجل؟ أطلِقْ قومه ليعبدوا ربّهم. لقد أمست مصر بما نزل عليها من البلاء خرابا!”
ودعا فرعون موسى وهارون (عليهما السلام) وقال لهما: “اذهبوا واعبدوا الله ربّكم. ولكن أخبراني من سيرافقكم؟” فأجابه النبي موسى: “سنذهب جميعًا، صغارًا وكبارًا وسنأخذ غنمنا وأبقارنا، لأنّنا سنقيم عيدًا إكرامًا لله ربّنا”. فقال لهما فرعون: “ستكونون بحاجة إلى عون الله إن أنا أَطلقتُكم مع زوجاتكم وأولادكم! إنّ الأمر جليّ، إنّكم على الشر عازمون. لا، لن أسمح إلاّ للرجال منكم أن يذهبوا ويقيموا عيدًا لله، إنّ هذا ما كنتم تطلبون”. وطردهما فرعون مِن قصره وكان من الظالمين.
فأوحى الله إلى النبي موسى: “مُدّ يدك على أرض مصر وليحلّ عليها الجراد وليأكل عشب الأرض وكلّ ما سلم من عاصفة البَرَد”. فمدّ موسى (عليه السّلام) عصاهُ على أرض مصر. وجعل الله ريحًا شرقيّة تعصف على الأرض دامت يومًا كاملاً ليلاً نهارًا. وعند بزوغ الصباح حملتِ الرّيحُ الشرقيّة الجراد، فهجم على أنحاء مصر كلّها، وكان هجوما لم ير له المصريّون شبيها، ولم تشهد له مثيلا من قبل، ولم يكن له نظير من بعد. فغطَّى الجراد الأرض كلّها حتّى أظلمت الدّنيا. وأكل جميع عشبها وكلّ ما تبقّى بعد عاصفة البَرَد من قمح وثمر شجر، فلم يبقَ شيءٌ مِن خضرة الشّجر ولم يبق عشب في أطراف مصر كلّها.
وأسرع فرعون واستدعى موسى وهارون (عليهما السلام) وقال لهما: “أخطأتُ في حقّ الله ربّكم وفي حقّكما، فاصْفَحا عن ذنبي للمرّة الأخيرة، وتضرّعا إلى ربّكم أن يرفع عنّي هذه الكوارث المدمّرة”. وحين غادر النبي موسى فرعون، تضرّع إلى الله، فاستجاب الله له وجعل ريحًا غربيّةً قويّة تهب، فحملت الجراد وطرحتْهُ في البحر الأحمر، ولم تبق في أرض مصر كلّها جرادة واحدة. وجعل الله فرعون يتمادى في عناده، فلم يف بوعده الذي أعطاه للنبي موسى.

الآفة التاسعة: الظلام

وأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “مُدّ يدك نحو السّماء فيحلّ ظلامٌ دامسٌ على أرض مصر”. فمدّ النبي موسى يده نحو السّماء، فحلّ ظلامٌ حالِكٌ على أنحاء مصر كلّها دام ثلاثة أيّام. ولم يستطع أحد أن يبصر من معه، ولا حتّى أن يغادر مكانه. أمّا بنو يعقوب فكانوا يتمتعون بضوء الشمس حيث يسكنون.

الوعيد بموت كل ابن بكر

وأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “يا موسى، إنّي منزل على فرعون وعلى بلاد مصر آفة أخيرة، ثمّ إنّه من بعدها يطلقكم من بلاده، بل إنّه سيُدفعُ إلى إخراجكم من مصر إخراجا. فأخبر رجال بني يعقوب ونساءهم أن يطلبوا من جيرانهم مصوغا ذهبا وفضّة”. وأدخل الله على قلوب المصريّين احترام بني يعقوب والرضا عنهم. وكان النبي موسى رفيع القدر في عيون حاشية فرعون وفي عيون المصريين.

فرعون يتمادى في عناده

واستدعى فرعون موسى (عليه السّلام) وقال له: “اِذهبوا واعبدوا الله، أنتم وزوجاتكم وأطفالكم، واتركوا غنمكم وأبقاركم حيث تسكنون”. فأجابه النبي موسى: “بل عليك أن تسمح لنا أن نأخذ مواشينا لنقدّمها ذبائح ونحرقها لله ربّنا. كلاّ. لن نذهب إلا إذا أخذنا معنا مواشينا كلُّها. ولن يبقى منها رأسٌ واحدةٌ إذ منها نختار ما نقدّمه لله ربّنا، ولا نعرف تحديدًا أيها نختار لعبادته تعالى حتّى نصل إلى الصحراء”. وجعل الله فرعون يتمادى في عناده مرّة أخرى. فأبى أن يُطلِق بني يعقوب.
وصرخ فرعون في وجه النبي موسى: “اِذهبْ عنّي! إيّاك أن تعود إليّ مرّة أخرى. إنّك يوم تنظر إلى وجهي تموت!” فقال النبي موسى: “نعم، سيكون الأمر كما قلتَ، سيكون هذا آخر عهدك بي”.

النبي موسى ينذر فرعون

ولقد سبق من النبي موسى إلى فرعون النذير إذ قال له: “إنّ الله سيتجلّى في منتصف الليل في مصر، وبتجلّيه يموت كلُّ بكر فيها، يموت بكر فرعون الجالس على عرشه ويموت بِكْر الجارية الّتي تعمل بحجر الطّحن. وتموت أبكار البهائم أيضا. وليعلونّ نواح كبير في أنحاء مصر، نواح لم يمرَّ بمصر شبيه له ولن يُرى له فيها مثيل. أمّا بنو يعقوب فتسودهم السكينة فلن ينبح كلبهم جزعا. هذا لتعلموا أنّي فضلتُهم على المصريين”. وختم موسى كلامه بقوله: “يا فرعون، ليأتينّ إليَّ جميع رجال حاشيتك وينحنون أمامي متوسّلين إليّ أن أغادر أنا وقومي أرض مصر، وبعدها فقط يكون الرحيل”. وغادر موسى (عليه السّلام) قصر فرعون غاضبًا.
وقبل هذا اللقاء، أوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “صُمَّتْ آذان فرعون عن الوحي المبين، ولأنزلنّ على أرض مصر آيات أعظم من الآيات الأولى”. وجرت على يد موسى وهارون أمام فرعون المعجزات، وجعل الله فرعون يتمادى في عناده، فلم يُطلق بني يعقوب من أرضه.

عيد الفصح

وعندما كان بنو يعقوب في مصر، حذّر الله موسى وهارون (عليهما السلام) قائلاً: “ليكن شهر خروجكم من الآن أوّل شهور السنة. فأعلنا لكلّ جماعة بني يعقوب أنه على كلّ ربّ أسرة أن يأخذ خروفًا واحدًا عن أهل بيته في العاشر من هذا الشهر. فإن كان عدد أهل بيته أقلّ من أن يأكلوا خروفًا، فليتقاسموه مع عائلة أخرى. وحسب عدد الأشخاص الّذين سيشتركون في تناول الطعام، عليهم أن يختاروا ذبحا لا يتجاوز عمره سنة واحدة، ويجب أن يكون خاليا من كلّ عيب، وتنتقونه من الغنم أو الماعز، وتحفظونه إلى اليوم الرابع عشر من الشهر نفسه. وعلى كلّ عائلة من بني يعقوب أن تذبح ذبحها المختار عند غروب هذا اليوم، ثمّ يأخذون من دمه ويرشّونه على قوائم الباب في كلّ اتّجاه، ويخصّ هذا الأمر المنازل الّتي فيها يأكلون.(٢ وفي تلك الليلة عليكم أن تأكلوا لحم الذبيحة مشويًّا مع خبز غير مخمّر وأعشاب مرّة. ولا تأكلوا لحمها ورأسها وأكارعها وأمعاءها نيئة أو مطبوخة، بل عليكم أن تأكلوها مشوّية، وكلوا من اللحم في تلك الليلة، ثمّ احرقوا كل ما تبقّى منه قبل حلول الصباح. وكلوا لحم ذبائحكم في عَجَلة وأنتم للرحيل متأهّبون، نعالكم في أرجلكم، وعِصيّكم في أيديكم. إنّ هذا العشاء عشاء عيد الفِصْح فاحتفلوا به، إنّكم حين تحتفلون به تكرموني. وإنّي أتجلّى في تلك الليلة في بلاد مصر، وأقضي على أبكار المصريين وعلى أبكار حيواناتهم التي يملكون، فأنفّذ حُكمي في كلّ آلهة المصريّين، لأنّي أنا الله رب العالمين. وسأحمي كلّ من يُرَشُّ على بيته الدمُ ولن أصيبه بمكروه حين أضرب بلاد مصر، لأنّ الدّم سيكون علامةً تحميه.(٣ إنّ هذا اليوم عليكم فريضة فاحتفلوا بهذا العيد إكراما لي على مدى الأجيال.

عيد الفطير

ثمّ احتفلوا بعد عيد الفصح بعيد الفطير. فكلوا الخبز دون خمير سبعة أيّام، وأخرجوا في اليوم الأوّل الخمير من منازلكم، ولتأكلوا منذ اليوم الأوّل من أسبوع الاحتفال إلى انقضائه الخبز دون خمير ومن يأكل خبزا مخمَّرا يكون من جماعتكم منبوذا. وأقيموا شعائر صلاة الجماعة في اليوم الأوّل واليوم الأخير من هذا الأسبوع، ولا يجوز لكم في هذين اليومين أن تعملوا أيّ عمل باستثناء تحضير طعامكم. فاحتفلوا بعيد الفطير فريضةً على مدى أجيالكم لأنّي في هذا اليوم أخرجتُكم أفواجًا من بلاد مصر. وكلوا خلال هذا العيد فطيرًا دون خمير أينما كنتم تقيمون، وطهّروا بيوتكم من الخمير، ولْيُنْبَذْ من يأكل خميرا من بني يعقوب، دخيلاً كان أم أصيلاً.

ممارسة شعائر عيد الفصح

ثمّ استدعى النبي موسى جميع شيوخ بني يعقوب وأمرهم: “على كل عائلة أن تختار ذبحا وتذبحه احتفالاً بعيد الفِصْح، واحتفظوا بدمه في وعاء، ثم خذوا حزمةً من نبات الزوفا واغمسوها في الدّم، ورشّوا منه على قوائم أبواب بيوتكم. ولا تغادروا عتبات أبواب منازلكم حتّى الصّباح. إنّ الله سيتجلّى في أنحاء بلاد مصر، وسينزل ملاك الموت على أبكار المصريين، فإذا رأى الدّم على قوائم أبواب بيوتكم تخطّاها ولم يقض على أبكاركم. يا بني يعقوب أطيعوا وذريّتكم هذه الوصايا فريضةً على مدى الأجيال، وحين تدخلون الأرض التي سأدلّكم عليها، أقيموا هذه الشعائر باستمرار. وإن سألكم أولادكم: لماذا نقيم شعائر هذا العيد؟ فأجيبوهم: إنّها أضحية عيد الفِصْح إكرامًا لله. إنّ الله حمى بيوتنا في مصر، ونجّانا لمّا حلّ الهلاك على المصريين”(٦. وبعد أن أنهى النبي موسى كلامه، خرّ قوم بني يعقوب ساجدين. وفعلوا كما أوحى الله إلى موسى وهارون (عليهما السلام).

الآفة العاشرة: موت أبكار المصريين

وفي منتصف الليل تجلّى ملاك الموت وفَتك، بإذن الله، بأبكار كلّ المصريين، من بِكر فرعون الجالسِ على عرشه إلى بِكر السجين في غياهب سجنه، وأهلك أبكار الحيوانات أيضا. وأفاق فرعون ورجال حاشيته وسائر المصريين على حجم المصيبة، وتعالى نواحهم، إذ لم يخل بيت من هول فاجعة الموت.
واستدعى فرعون، في تلك الليلة، موسى وهارون (عليهما السلام) وقال لهما: “اخرجوا الآن من مصر. اتركونا واعبدوا ربّكم كما كنتم تطلبون. خذوا غنمكم وأبقاركم، واتركونا وشأننا، واطلبوا بركة الله عليّ حين تخرجون”.
وحثّ المصريّون بني يعقوب على الرحيل ومغادرة بلادهم، واستعجلوهم، فقد كانوا يظنّون أن الموت سيصيبهم جميعًا إذا ظلّ بنو يعقوب في مصر أكثر من ذلك. فأخذ بنو يعقوب عجينهم قَبل أن يختمر، ووضعوه في أواني وشدّوها بثيابهم على أكتافهم. وفعلوا كما أوصاهم النبي موسى، فطلبوا ثيابًا ومصوغ ذهب وفضّة من المصريّين. وجعل الله المصريّين يرضون على بني يعقوب، فأعطوهم ما طلبوه. وهكذا انتصف بنو يعقوب من المصريّين.

رحيل بني يعقوب

ورحل في تلك الليلة ستّ مئة ألف رجل أو يقلّون قليلا باستثناء النّساء والأطفال من بني يعقوب مشيًا على الأقدام، من مدينة رَعَمْسيس إلى سُكّوت. وانضمّ إليهم من الأغراب حشد كبير، وقطعان كثيرة من المواشي والأبقار. وخبزوا في طريقهم العجين الّذي حملوه معهم من مصر وهو بعد فطير، لأنّهم هرعوا خارجين، ولمّا يختمر العجين.
ووصلت مدّة إقامة بني يعقوب بمصر أربع مئة وثلاثين سنةً، وفي آخر يوم من وجودهم في مصر، خرجت جميع قبائلهم أفواجًا أفواجًا. وكان الله في تلك الليلة خير حافظ لبني يعقوب، فعليهم أن يحفظوا تذكار تلك الليلة ليبقى على مدى الأجيال.

الهجرة إلى البحر الأحمر

وحين تحرّر بنو يعقوب من ظلم فرعون لم يرشدهم الله إلى طريق الساحل في بلاد فلسطيا، رغم أنه أقصر السبل إلى الأرض التي ائتمنهم عليها، حتّى لا يرتدّوا إلى مصر وعلى أعقابهم ينقلبون. لذلك أرشد الله بني يعقوب أن يسلكوا طريقًا ملتوية في الصحراء تصل بهم إلى البحر الأحمر. وكانوا أفواجًا أفواجًا عند خروجهم من أرض مصر. وأخذ النبيّ موسى عظام يوسف النبيّ معه، إذ استحلف يوسف قبل وفاته بني يعقوب قائلاً: “إن الله سيرعاكم وسوف يخرجكم من هذه الأرض، فإذا خرجتم فاحملوا رفاتي معكم”.
ورحل بنو يعقوب من منطقة سُكُّوت، ونزلوا في منطقة إيثام على مشارف الصحراء. وكانت تجلّيات الله تتقدّمهم نهارًا وقد اتخّذت شكل عمود من سحاب يدلّهم على الطّريق، وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم السبيل. فكانوا على أن يواصلوا السّير ليلاً نهارًا قادرين. ولم يرفع الله من أمامهم عمود السّحاب نهارًا ولا عمود النّار ليلاً.
وأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): قل لبني يعقوب أن يعودوا أدراجهم وينزلوا قُرب بلدة الحيروث، بالقرب من بلدة بَعْل صَفون، بين بلدة مَجدُل والبحر الأحمر، حتّى يظنّ فرعون أنّ بني يعقوب في الصحراء تائهون ولا مخرج لهم منها ولا سبيل. وسأجعل فرعون يتمادى في عناده فيطاردكم،(١ إنّي أريد أن أبدي جلالي في فرعون وجيوشه حتّى يعلم المصريّون أنّي أنا الله العلي العظيم”. وأطاع بنو يعقوب وحي الله وأقاموا حيث أمرهم تعالى.

فرعون يطارد بني يعقوب

وحين علم فرعون أن بني يعقوب هجروا مصر، ارتدّ وحاشيته عن رأيهم وقالوا: “كيف فعلنا هذا؟ فأطلقنا بني يعقوب من خدمتنا!” فأمر فرعون بتجهيز مركبته واستنفر جيشه، ورافقته ستّ مئة مركبة تحمل أقوى جنوده مع المركبات الحربية الّتي يترأس كلّ واحدة منها ضابط. وجعل الله فرعون يتمادى في عناده، فلحق بني يعقوب الّذين رحلوا أمامه في عزّ جليّ، وطاردهم بجميع مركباته وفرسانه وجنوده ولحق بهم حيث كانوا ينزلون، لحق بهم عند البحر قرب بلدة الحيروث وبلدة بَعْل صَفون. ولمّا لمح بنو يعقوب فرعون وجيوشه منهم يقتربون، انتابهم الهلع الشديد، وجأروا إلى الله في الحال. وشكوْا الأمر إلى النبي موسى قائلين: “لماذا أخرجتَنا إلى الخلاء؟ هل ضاقت مصر عن أن يكون لنا فيها قبور، فجئتَ بنا لنموت في الصحراء؟ ماذا فعلتَ بنا؟ لماذا جعلتَنا نخرج من مصر؟ أما أخبرناك هناك وقلنا: دعنا وشأننا فنخدم المصريّين، إنّه خيرٌ لنا أن نكون عبيدًا في مصر على أن نكون جيفًا في الصحراء!” فقال لهم موسى (عليه السّلام) في ثبات ويقين: “لا خوف عليكم! اثبتوا في أماكنكم وانظروا كيف ينجّيكم الله اليوم! إنّ المصريّين الّذين أمامكم، لن تروهم إِلى الأبد. وما أنتم الّذين تحاربون بل الله يحارب عنكم، وأنتم ساكنا لا تحرّكون”.

عبور البحر

ثمّ أوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “لماذا تتوسّل إليّ على الدوام؟ قل لبني يعقوب أن يرحلوا. وأمسك عصاك وارفعها نحو البحر وسوف ينشقّ بإذني، فادخلوا بين موجين كالجبال، وسيروا على أرض البحر اليابسة. وسأقفل على قلوب جيوش مصر ما عزمت عليه، حتّى يلحقوا بكم، فأدمّرهم تدميرا وأكشف قدرتي وهيبتي حين أدمّر فرعون وجنوده ومركباته وفرسانه جميعا. فيعلم المصريّون حينئذ أنّي أنا الله العلي العظيم”. وكان الملاك الذي أرسله الله يتقدّم بني يعقوب منذ خروجهم من مصر، وها هو الآن ينتقل وينتقل معه عمود السحاب ليكون خلفهم، وحلّ الملاك وعمود السحاب بين جيش المصريّين وجماعة بني يعقوب. وعند هبوط الظلام أصبح عمود السحاب عمودا من نار أضاء على جماعة بني يعقوب، وفي الجهة المقابلة ظلّ جيش المصريين في ظلام فلم يتقارب الفريقان طوال اللّيل.
ومدّ النبي موسى يده فوق البحر، فأرسل الله ريحا شرقيّةً عاصفة فتحت فيه طريقًا، واستمرّت الريح في العصف ليلة كاملة كشفت فيها عن قاع البحر. ومشى بنو يعقوب على اليابسة وسط البحر. وكان الماء على الجانبين يمينًا وشمالا كالسور المنيع. وطاردهم المصريّون بخيل فرعون ومركباته وفرسانه طوال الطريق الممتدّة وسط البحر. وكان الله رقيبا عليهم، وقبل طلوع الفجر تجلّى في عمود السحاب المتلهب نارا، وعصف بصفوف جيش فرعون، وعطّل عجلات مركباتهم فما دفعوها إلاّ بجهد جهيد وقالوا: “لنهرب من هنا، ونبتعد عن بني يعقوب، إنّ الله يقاتلنا بدلاً عنهم”.(٥
وحينما خرج بنو يعقوب من البحر إلى الضفّة الأخرى، أوحى الله إلى النبيّ موسى: “يا موسى ابسط يدك نحو البحر، وليعد الماء إلى التحامه ولتغمر المياه مركبات فرعون وفرسانه”. وعند طلوع الشمس فعل موسى (عليه السّلام) ما أمره الله به، وعاد البحر إلى ما كان عليه. وحاولت الجيوش الهروب من المياه، ولكنّ الله حبسها في أعماقها. وغمرت المياه المركبات والفرسان وكلّ جيش فرعون الّذي طارد بني يعقوب في البحر، فما نجا منهم أحدٌ. أمّا بنو يعقوب، فعبروا البحر على اليابسة الّتي تتوسّطه، وكان الماء كالسور يحميهم يمينًا وشمالا. وكذلك أنقذ الله بني يعقوب في ذلك اليوم العظيم من يد فرعون وجنوده، ورأى بنو يعقوب جثث أعدائهم على شاطئ البحر.(٦ وعندما رأى بنو يعقوب جبروت الله الّذي أنزله على جيش فرعون، هابوه تعالى وآمنوا به وبعبده موسى.

مريم تنشد لله

ولمّا تسارعت خيل فرعون ومركباته وفرسانه إلى دخول البحر، أفاض الله الماء عليهم فأمسوا مغرقين، وأمّا بنو يعقوب فنجوا من اليمّ العظيم لأنهم عبروه سيرا على الأرضِ اليابسة. وأوحى الله إلى مريم أخت هارون،(٨ فأخذت في يدها دُفًّا، وتبعتها النّساء ضاربات بالدّفّ راقصات. فأنشدت أمامهنّ:
“أنشِدوا لله جلّ جلاله
ها تلكم الخيل وفرسانها رماهم في اليم فأمسوا مغرقين”.

نشيد النصر

وأنشد النبيّ موسى وبنو يعقوب مع مريم هذا النشيد لله:
“أُنشدُ لله جلّ جلالُهُ.
رمى الخيل وفرسانها في البحر فهم مغرقون.(١
إنّ الله عزّتي وإنّه لنشيدي
نصرني على أعدائي النصر المبين.
أمدحُهُ فهو معبودي.
تعالى ربّ آبائي وجدودي.
إنّه القهّار الجبّار
الله اسمُهُ.
ألقى فرعون ومركباته وجنوده في اليمّ غرقا.
فابتلعت أمواج البحر الأحمر نخبة جيوشه فزهقوا زهقا.
غمرتهم اللّجج فغاصوا إلى الأعماق كالحجارة.
اللهمّ تجلّت يمينك بالعزّة والجبروت.
يمينك يا اللهُ تحطّم الطاغوت.
تقهر أعداءك بجلالك العظيم،
ويحلّ غضبك عليهم فيأكلهم كالنار تأكل الهشيم.
بنفخة منك انشطرت المياهُ
وانتصبت أمواجُها كالطود العظيم،
وتجمّدت اللّجج في اليمّ العميق.
قال العدوّ: أتبعهم فألحق بهم فأثخن فيهم دماء.
وأُقسّم الغنيمة فأشبع منها،
وأستلّ سيفي فتُفنيهم يدي إفناء.
سبحانك اللهمّ، أنت بنفخةٍ منك كان البحر لهم غشاء،
فغرقوا كالرّصاص في غمر الماء.
يا ربُّ لا شريك لك ولا مثيل!
مَن مِثلك يا جليل تقدّسْتَ وتعاليتَ؟
يا مَهيبًا مجيدًا في الأعجوبات
يا ربّ، يا من تفعل الآيات والمعجزات.
بسطتَ إليهم يمينا قديرة،
فابتلعتْهم الأرض.
يا وفيّا لعهودك، هديتَ عبادك إلى درب الخلاص العظيم
وأنقذتَهم من العبودية وأرشدتَهم إلى ديارك المُقدّسة أيّها القوي المتين،
بعظمتك سمعَتِ الشّعوب فارتجفوا،
وذُعر سكّان فِلسطيا ذُعرا
وزعماءُ بلاد أَدوم ارتعبوا،
وأشراف مُوآب ارتعدوا،
وفقد سكّان كنعان شجاعتهم ومن الخوف ذابوا.
وحلّ بهم الرعب وإنهم يرتجفون،
وحين يرون قدرتك يجزعون وكالحجارة يتجمّدون
حتّى يعبر أمامهم عبادك الذين بقدرتك أصبحوا محرّرين.
والآن تأتي بهم فتجعلهم مستقرين
في الجبل المصطفى
لتقيم فيه حرمك المقدّس وفيه تتجلّى.
اللهمّ، أنت مالك الملك إلى أبد الآبدين”.

بنو يعقوب في الصحراء

وقاد موسى (عليه السّلام) بني يعقوب من شاطئ البحر الأحمر وانطلقوا مشيًّا إلى صحراء شور. وساروا ثلاثة أيّام ولم يجدوا ماء. واقتربوا من واحة، فوجدوا فيها ماء لكنّهم لم يقدروا أَن يشربوا منه لمرارته، ولذلك سمّوا الواحة مارّة. وشكى بنو يعقوب إلى النبي موسى عطشهم وقالوا: “ماذا نشرب؟” فاستغاث النبي موسى ربّه، فكشف له عن شجرة مميّزة، فكسر منها غصنا ورماه في الماءِ فصار عذبًا.
وفي هذا المكان أصدر الله لبني يعقوب أمرا به يكشف مدى إخلاصهم له، فقال تعالى: “إن أطعتم كلام الله ربّكم، وسرتم على هداه، واتّبعتم وصاياه، وقمتم بما فرضه عليكم، فلن أُنزل بكم ما أنزلت بالمصريّين من أمراض وعلل، فإنّي أنا الله الشافي المعافي”.
وغادر بنو يعقوب واحة مارّة نحو واحة إيليم. فوجدوا فيها اثنتي عشرة عين ماء وسبعين نخلة، فنصبوا خيامهم بجانب عيون الماء.

تذمّر بني يعقوب

ورحل بنو يعقوب من واحة إيليم نحو صحراء سين الّتي تقع بين إيليم وجبل سيناء ووصلوا إلى جبل سيناء بعد مرور شهر عن تحرّرهم من مصر. وهناك تذمّروا على هارون وموسى، مرّة أخرى، وقالوا: “ليت الله أهلكنا في مصر. فهناك كنّا نجلس حول قدور اللّحم ونأكل ما لذّ وطاب لنا حتّى نشبع، أمّا الآن فقد جئتما بنا إلى هذه الصحراء حتّى نموت جوعا!”
فأوحى الله إلى النبي موسى:
“إنّي سميع عليم بتذمّر بني يعقوب”.

المنّ وطيور السلوى

فأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “يا موسى، إنّي سأُمطر لكم خبزًا من السّماء، فاجمعوا منه قوت يومكم. وإنّي بهذا مُمتحنُهم، فتظهر لي مدى طاعتهم لأوامري. وليجمعوا في اليوم السّادس ضعف ما تعوّدوا جمعه في سائر الأسبوع”.
فقل لهم: عند الغروب، لحمًا تأكلون وفي الصّباح من الخبز تشبعون، وحينها تعرفون أنِّي أنا الله ربّكم”.
وقال النبي موسى لأخيه هارون: “أخبر جميع بني يعقوب أن يجتمعوا حيث نعبد الله فهو سميع بشكواهم”. وبينما كان هارون (عليه السّلام) يخاطبهم، نظروا نحو الصحراء، فإذا بتجلّيات الله تطالعهم في السحاب.
وخاطب موسى وهارون بني يعقوب: “لتكوننّ عند الغروب على يقين، أنّ الله هو الّذي أخرجكم من مصر فأصبحتم محرّرين، ولتشاهدُنّ في الصّباح شأن الله العظيم، لأنّه سميع بشكواكم وما به تتذمّرون. فما لكم مِن حقّ علينا، فكفّوا عن لومكم وما تقولون!” وأضاف موسى (عليه السّلام): “نعم، عند الغروب يعطيكم الله لحمًا تأكلون، وفي الصباح خبزًا منه تشبعون، فهو السميع العليم. فما الّذي فعلناه في حقّكم؟ إنّ شكواكم مرفوعة إلى الله لا إلينا!”
وكذلك فعل الله، فعند الغروب نزلت أعداد هائلة من طير السّلوى، وغطّت الأرض التي فيها بنو يعقوب. وحلّت في الصباح على كل المنطقة المحيطة به طبقة من النّدى. وحين تبخّر النّدى، بدت قشور رقيقة كالجليد تغطّي الثّرى. فلمّا رآه بنو يعقوب تساءلوا: “ما هذا؟” ذلك أنّهم لم يفقهوا ما رأوه. فأخبرهم النبي موسى: “هو الخبز الّذي أنزله الله لكم فكلوه. وأمركم الله أن: تجمعوا منه، كلّ حسب حاجته. وليكنْ لكلّ واحد من أهل بيتكم غُمرًا واحدًا”.
ففعل بنو يعقوب كما أمرهم الله، فمنهم من جمع كثيرًا ومنهم من جمع قليلاً. وحينما وزّعوه بالكيل ووجدوا أنّ كلّ واحد لديه ما يكفيه، فمهما جمع كثيرًا أو قليلاً لن يزيد عن حاجة عائلته، فجمع كلّ واحد حسب حاجته.
وأوصاهم موسى (عليه السّلام): “احذروا، ولا تحتفظوا بشيء منه حتّى الصباح”. غير أنّ منهم من لم يكترث بكلام النبي موسى، فأبقى منه ما أبقى، فتعفّن وأكله الدود. فاحتدم موسى عليهم غيظا وغضبا.

وصف المنّ

وسمَّى بنو يعقوب ذلك الطعام منّ، وكان لونه أبيضا كبذور الكُزبرة، وطعمه طعم القطائف المحلاة عسلا.
وأكل بنو يعقوب المَنّ أربعين سنة حتّى وصلوا أرضا عامرة، على حدود أرض كَنعان حيث زرعوا وحصدوا.

الله يفجّر الماء من الصخرة

وأمر الله بني يعقوب أن يتركوا صحراء سين وأن ينتقلوا من مكان إلى مكان، فرحلوا إلى منطقة رفيديم ولكنهم لم يجدوا ماء يشربونه. فاتّجهوا إلى النبي موسى (عليه السّلام) بخصام عنيد وقالوا: “أفلا تسقينا ماء!” فأجابهم: “ما لكم تخاصمونني خصام المكذّبين؟ أم أنّكم لوفاء الله بوعده ممتحنون؟” واشتدّ العطش ببني يعقوب في منطقة رفيديم ولاموا النبي موسى لوما قويّا وقالوا: “هل خرجنا من مصر إلى حتفنا؟ هل تريدنا أن نموت وأبناؤنا ومواشينا ها هنا عَطشًا؟” فاتّجه النبي موسى إلى الله في خشوع: “أي ربي لستُ أعلم ما أفعل مع بني يعقوب، إنّهم من رجمي بالحجارة قريبون ولقتلي فاعلون”. فأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “يا موسى، أبلغ بني يعقوب عني ولا تخف، وخذ منهم بعض شيوخهم وائت بهم إلى صخرة حوريب. ثم خُذ بيمينك العصا الّتي ضربتَ بها نهر النيل، ولا تتردّد، إنّي معك في كلّ حين. واضرب بعصاك الحجر فينفجر منها ماء يشرب منه قبائل بني يعقوب”.(٨ وكان النبي موسى عند أمر الله وانفلق الماء من الصخرة وشيوخ بني يعقوب ينظرون. وسمَّى موسى (عليه السّلام) ذلك المكان صخرة الخصام والبرهان، لأنّ بني يعقوب تخاصموا وامتحنوا وفاء الله بوعده لهم حين قالوا: “هل بقي الله معنا حقّا؟”

بلوغ بني يعقوب جبل سيناء

وترك بنو يعقوب منطقة رَفيديم، ووصلوا بعد شهرين من خروجهم من مصر إلى الصحراء المجاورة لجبل سيناء، ونزلوا عند سفح الجبل. وصعد النبي موسى إلى الجبل لموعد له مع الله. فناداه الله مِن الجبل: “يا موسى قُل لبني يعقوب: ها أنتم رأيتم بأمّ أعينكم ما فعلتُ بالمصريّين، وكيف حملتُكم على أجنحة النسور وجئتُ بكم إلى جبلي هذا. فإن أطعتم وصاياي وحفظتم ميثاقي، ستكونون خاصّتي بين الأمم،(١ إنّما اعلموا أنّي أنا الله ربّ العالمين، أمّا أنتم فتكونون لي مملكة من أحبار وأمّة من المنذورين. إنّ هذه رسالتي إلى بني يعقوب، وما عليك سوى البلاغ المبين”. ونزل موسى (عليه السّلام) من الجبل واستدعى الشيوخ وبلغهم ما أمر الله به. فأجابوا بصوت واحد: “إنّا لِما أوحى الله إليك طائعون، وبه عاملون”. فصعد النبي موسى الجبل من جديد يحمل دخول بني يعقوب في عهد الله وميثاقه.
وأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): يا موسى، سأتجلّى لك في غمام حتّى يسمع قومك صدى صوتي حين أكلّمك تكليما، فيزدادون ثقة فيك”. وعبّر النبي موسى عن استعداد قومه للدخول في الميثاق. فأوحى إليه تعالى: “اِذهب إلى بني يعقوب وامرهم أن يتطهّروا اليوم وغدًا، وأن يغسلوا ثيابهم، وفي اليوم الثالث تأكّد أنّهم على استعداد، فإنّي سأتجلّى لهم في ذلك اليوم على جبل سيناء وهم ينظرون. فأقم لقومك حدودًا حول الجبل وأنذرهم: “إيّاكم أن تصعدوا الجبل أو تقتربوا من طرفه، فمَن يمسّ الجبل يُقتل حتمًا. فلا تمسّ المعتدي يدٌ، بل يُرجم رَجْمًا أَو يُرمى سهاما، سواءٌ أكان حيوانًا أو إنسانًا، إنّ عليكم أن تقتلوه.” ولكن يا موسى، يُمكن للناس أن يصعدوا الجبل حين يسمعون صوت بوقٍ عال”.
فنزل النبي موسى إلى قومه عند سفح الجبل وأمرهم قائلا: “يا بني يعقوب استعدّوا لليوم الثالث، فاعتزلوا نساءكم وتطهّروا وأغسلوا ثيابكم”.

تجلّيات الله على جبل سيناء

وفي صباح اليوم الثالث حدثت رعودٌ وبُروقٌ والتفت غمائم كثيفة فوق جبل سيناء، ودوّى صوت شديد من بوق لوقت طويل، فارتعد كلّ مَن في المخيّم. فقادهم النبي موسى إلى خارج المخيّم ليقتربوا من تجلّيات الله، فوقفوا عند سفح الجبل، وكان الدخان يلفّ الجبل، لأنّ الله تجلّى فيه وجعل النار رمزًا لوجوده تعالى، فتصاعد منه دخان كدخان الأتون واهتزّ الجبل بشدّة. وبينما كان النبي موسى يخاطب الله الّذي كان يجيبه بصوت شبيه بصوت الرعد، ازداد دَوِيُّ البوق أكثر فأكثر. وتجلّى الله على قمّة جبل سيناء ودعا النبي موسى ليصعد إلى القمّة فاستجاب له. وهناك أوحى الله إليه: “اِنزلْ إلى بني يعقوب وأنذرْهم أن لا يتخطّوا الحدود حول الجبل ليحظوا برؤيتي جهرا فيهلك منهم كثيرون. وعلى الأحبار الّذين يتقرّبون مني أيضًا أن يتطهَّروا لئلاّ أهلكهم”. فردّ النبي موسى على الله: “لا يمكنهم أن يصعدوا إلى جبل سيناء لأنّك حذّرتَنا مسبقًا: “أقم حدودًا حول الجبل وحرِّمْ عليهم أن يجاوزوه”. فأوحى إليه تعالى: “اِنزِلْ وعُدْ بهارون، ولكن لا تسمح للأحبار والشعب أن يتعدّوا الحدود ليصعدوا إليّ ليروني جهرًا لئلاَّ أهلكهم”. فنزل موسى (عليه السّلام) إلى بني يعقوب وأخبرهم بهذا الوحي.

الوصايا العشر

وأوحى الله إلى النبي موسى (عليه السّلام): “إنّي أنا الله ربّكم، وأنا مُنقذكم من أرض مصر، من دار العبوديّة.
لا تتّخذوا من دوني أربابًا لها تخضعون.
ولا تصنعوا صنمًا يشبه أحد الكائنات، في المياه أو في الأرض أو في السماوات. ولا تسجدوا لها ولا تعبدوها، فأنا الله ربّكم لا إله إلاّ أنا، ولا أجيز أن تتّخذوا لي أندادا. أترك عواقب الذنوب تسري في الجيل الثّالث والرابع من الذين يبغضونني من الجاحدين، وأوفي بعهدي إلى ألوفٍ من الأجيال الّذين يُحبّونني وبوصاياي يعملون.
ولا تلحقوا باسم الله ربّكم اللوم والعار بما تفعلون، إنّ الله يعاقب على ذلك لا ريب، إن عقابه لشديد.
ووقّروا اليوم السّابع واحفظوا قُدسيته. إنّ لديكم في الأسبوع ستّة أيّام فيها تعملون، واليوم السابع يوم عطلة مخصّص لله ربّكم، لا عمل فيه، فاسكنوا فيه وبنوكم وبناتكم وخدمكم ودوابكم والغريب المقيم بينكم واستريحوا. إنّ الله خلق السّماوات والأرض والبحار وما فيها في ستّة أيّام، ثمّ توقّف عن عمل الخلق في اليوم السابع وسكن على العرش. كذلك صار اليوم السّابع عند الله يومًا مميّزًا ومقدّسًا.(٤
أكرِموا والديكم وستلقون بإكرامهما خيرًا كثيرا، فتعيشون حياة طويلة هنيئة في الأرض الّتي يأتمنكم عليها الله ربّكم.(٥
لا تقتلوا.
لا تزنوا.(٦
لا تسرِقوا.
لا تشهدوا زورا على الآخرين.(٧
إيّاكم أن ترغبوا في الاستلاء على بيوت الآخرين. فلا ترغب في زوجة جار ولا عبده ولا جاريته ولا ثوره ولا دابته ولا أي شيء ممّا عنده”.
ولمّا سمع بنو يعقوب الرعود وصوت البوق وشاهدوا البروق والدخان يصعد من الجبل، ارتعبوا ووقَفوا بعيدًا. والتمسوا من النبي موسى قائلين: “يا موسى، إنّا لك من السّامعين، فاُطلب من الله أن يرحمنا فلا يكلّمنا تكليما، لئلاّ نكون من الهالكين!” فقال لهم موسى (عليه السّلام): “لا خوف عليكم. إنّما تجلّى الله لكم في الرعود والبروق، ليريكم عظمته ولكي تهابوه حتّى لا تخطئوا في حقه ولا تعصوه”. ثمّ صعد النبي موسى إلى الجبل مرّة أخرى، ودخل الضباب الكثيف حيث تجليّات الله، ووقف بنو يعقوب بعيدين عنه ينتظرون.

بناء المذبح

فأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “قُلْ لبني يعقوب: شاهدتم بأمّ أعينكم أنّي خاطبتُكم من السّماء. فلا تتّخذوا أصنامًا من فضّة أو ذهبٍ وإياها تعبدون. وابنوا مذبحا من ترابٍ إكرامًا لي، واحرقوا عليه أضاحي بأكملها واذبحوا غيرها من أغنامكم وأبقاركم للتقارب والمصالحة فيما بينكم. وإنّي أبارككم في كلّ موضع أحدّده لكم وفيه ترفعون ذكري.

إبرام ميثاق الله

فسجل موسى (عليه السّلام) كلّ وصايا الله. وفي الصباح الباكر بنى في أسفل الجبل مذبحا، ونصب اثني عشر عمودًا على عدد عشائر بني يعقوب. وأرسل شُبّانًا من القوم فقدّموا أضاحي ثمّ أحرقوها بأكملها، ثمّ ذبحوا غيرها من العجول للتقارب والمصالحة فيما بينهم وتناولوها في محضر الله. واحتفظ النبي موسى بدم الأضاحي ووضع نصفه في أوعيةٍ، ورشّ النّصف الآخر على المذبح. ثمّ قرأ من كتاب الميثاق على مسامع بني يعقوب، فاستجابوا قائلين: “سنفعل كلّ ما أوحى به الله، ونكون طائعين”. فأخذ النبي موسى الدّم الّذي في الأوعية ورشَّهُ عليهم وقال: “بهذا الدّم يُبرم الميثاقُ الّذي أَوصاكم الله أَن تحفظوه بالعمل بكلّ هذه الوصايا طائعين”.
ثمّ تسلّق موسى وهارون (عليهما السلام) الجبل مرّة أُخرى ومعهما ناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني يعقوب، فرأوا تجلّيات الله مولاهم ورأوا تحت العرش ما يشبه أَرضيّةً من الياقوت الأزرق في غاية الصّفاء، يماثل السّماء في النّقاء. ولكنّ الله لم يسمح بهلاكهم رغم أنّهم حظيوا برؤية تجلّياته وطعموا مِن العشاء في محضره تعالى.

اعطاء لوحين فيهما الميثاق

ولمّا فرغ الله من الوحي المنزّل على النبي موسى في جبل سيناء، أعطاه لوحي الميثاق وكانا من الحجر وفيهما خطّ الله وصايا الميثاق.

العجل الذهبي

وحين لاحظ بنو يعقوب تأخّر موسى (عليه السّلام) في الجبل، أحاطوا بهارون وقالوا في إلحاح شديد: “اجعل لنا إلها يرشدنا ونكون له تابعين. أمّا موسى ذاك الذي أخرجنا من مصر وجاء بنا إلى هنا، فلا نعلم ما الذي أصابه.”(٤ فأجابهم هارون (عليه السّلام): “آتوني أقراط الذهب التي هي زينة زوجاتكم وبنيكم وبناتكم”. فانتزعوا حلق الذّهب وجاؤوا بها إلى هارون. فأخذها وأذابها وصاغ منها تمثال في شكل عجل. ولمّا رآه بنو يعقوب صاحوا مفتونين: “يا بني يعقوب، هذا ربّكم الّذي أخرجكم من مصر!” وحين رأى هارون (عليه السّلام) كيف فرح بنو يعقوب، بنى مذبحا أمام الصّنم ونادى فيهم: “يا بني يعقوب، اجعلوا لإلهكم عيدا وليكن العيد غدًا!” وفي صباح اليوم الموالي، أحضر بنو يعقوب بعض المواشي، فذبحوا بعضها وأحرقوها حرقا تامّا قربانًا للصنم الذهبيّ، وذبحوا مواشي أخرى للتقارب والمصالحة فيما بينهم وجلسوا يأكلون منها بشره ويشربون محتفلين، وانغمسوا في ضلالهم لاهين.
وأوحى الله إلى موسى: “انزل الآن من الجبل، فإنّ قومك الذين أخرجتهم من مصر قد ارتدّوا، وهم في الضلال تائهون. يا لسرعة ضلالهم عن الصراط المستقيم الّذي أمرتهم به، فجعلوا لهم صنمًا مَسبوكًا على شكل عجل، وسجدوا له وقدّموا له الأضاحي قائلين: “يا بني يعقوب، هذا ربّكم الّذي أخرجكم من مصر!” يا موسى، إنّي بصير بما يفعلون، إنّهم شعبٌ متمرّد عنيد. وها أنّ غضبي يحتدم عليهم، وسأدمّرهم تدميرا، أمّا أنت يا موسى فسأجعل منك أُمّةً عظيمةً”.

النبي موسى يطلب رحمة الله لبني يعقوب

فتضرّع النبي موسى إلى ربّه قائلاً: “يا ربّ، لم يحتدّ غضبك على بني يعقوب أهل ميثاقك، الذين حرّرتهم من مصر بقوّتك وبيدٍ قديرة؟ سيشمت بهم المصريّون وسيقولون: إنّ ربّهم استدرجهم من بيننا ليفنيهم في الجبال وليمحوهم من وجه الأرض. يا الله، إني أعلم أنّ غضبك على بني يعقوب شديد، وأنّهم لهذا البلاء الذي أردتَهُ لهم مستحقّون، فارحمهم يا ربّ. واذكُر عبادك، إبراهيم وإسحق ويعقوب الّذين أقسمتَ لهم بذاتك وأنت تقول:” إنّي أُكثر نسلكم وأجعلهم كنجوم السماء عددًا، وأُعطيهم كلّ هذه البلاد الّتي وعدتُكم، فتكون لهم ميراثا على مدى السنين”.
ورحم الله بني يعقوب من بعد أن قرّر تدميرهم.

غضب النبي موسى من بني يعقوب

ثمّ نزل موسى (عليه السّلام) من الجبل وبين يديه لوحا الميثاق، وقد صنعهما الله وخطّ على وجهيْ كلّ منهما وصاياه تعالى.
وألتقى النبي موسى عند سفح الجبل بيوشع بن نون. وسمع يوشع بن نون ضوضاء بني يعقوب يصيحون فالتفت إلى موسى قائلاً: “كأنّي أسمع صوت معركة حيث يخيّم القوم!” فأجابه موسى (عليه السّلام): “ما هذا بهتاف منتصر ولا بعويل مهزوم، بل هو صوت احتفال مشؤوم”.
واقتربا من المخيّم، ورأى النبي موسى العجل ورآهم حوله راقصين، فاشتدّ غضبه وألقى اللّوحين فانكسرا على صخر سفح الجبل. ثمّ أخذ العجل الّذي صنعوه، فأحرقه وطحنه حتّى صار ناعِمًا، وذرَّاهُ على وجه الماء، وأجبر بني يعقوب أَن يشربوه.

النبي موسى يتشفع لقومه

وفي الغد خاطب النبي موسى قومه قائلا: “ما أفظع الإثم الذي ارتكبتموه بحق الله! سأصعَدُ الآن على الجبل حيث تجلّيات الله لأتضرع له تعالى حتّى يغفر لكم ما ارتكبتموه.” وصعد النبي موسى الجبل ليستغفر ربّه: “اللهمّ، ما أفظع الإثم الذي ارتكبه هذا القوم، إذ اتّخذوا صنما من ذهب إليه يخضعون! يا الله اغفر إثم قومي أو امحو اسمي من السجلّ الذي فيه دونت أسماء.” فأوحى الله إلى النبي موسى: “لا أمحو من سجلي إلاّ من أخطأ بحقّي. والآن عليك أن تسير وقومك إلى الأرض التي أوحيتُ بها إليك، وها هو ملاكي يهديك في دربك. ولكنّي في أجل محدّد أنزل عليهم عقابا على ذنبهم لا محالة.” وأنزل الله على قوم بني يعقوب وباء شديدا لأنهم أمروا هارون أن يصنع لهم عِجلا من ذهب.

النبي موسى ولوحا الميثاق الجديدان

وأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “انحتْ لوحَين من حجر على مثال اللوحين السابقين، وسأخطّ عليهما الوصايا ذاتها الّتي كانت على اللّوحين اللَّذين كسرتَهما. واستعدّ أن تصعد في الصباح إلى قمّة طور سيناء، حيث أتجلّى. ولتأت وحدك ولا يقترب من الجبل أحد من قومك، وحتّى الغنم والبقر يجب ألا تقترب منه لترعى”. ونحت النبي موسى لوحَيْن من حجر كما أمره الله، وتسلّق في الصباح الباكر جبل سيناء، وقد أخذ معه لوحَيْ الميثاق.
وحلّت تجلّيات الله في الغمام حيث يقف موسى، وأوحى الله إليه باسمه العظيم، الله. وعبرت نفحات سكينة الله على الجبل ونودي: “إنّي أنا الله الرحمن الرحيم، صبور حليم، كثير الإخلاص والوفاء. أوفي بوعودي لأجيال وأجيال، وأغفر الإثم والمعصية والذنوب الثقال. وإنّي لأترك عواقب ذنبكم، إذا أذنبتم، تسري في الأبناء والأحفاد”.
فانحنى النبي موسى سريعا إلى الأرض وخرّ في سجود وقال: “اللّهُمّ ربّي، إن كنت راضيًا عني، فكن لنا لا علينا. أجل ربّي، إنّ شعب بني يعقوب متمرّد عنيد، وإنّك أنت الغفور الودود، فاغفرْ لنا آثامنا وذنوبنا، واقبلنا عندك عبادًا مقرّبين”.

تجديد الميثاق

فأوحى الله إلى موسى (عليه السّلام): “ها أنا أقيم معكم ميثاقي، وأجري أمامكم معجزات لا مثيل لها في الأرض كلّها ولا نظير لها في العالمين، فيدرك جميع الناس من حولك عظمة ما أُجري بينكم من آيات. فاعملْ بما آمرك به اليوم. وسأشتّت من أمامكم الأموريّين والكنعانيّين والحِثّيّين والفِرزّيّين والحِوِّيّين واليَبوسيّين. وإيّاكم أن تجعلوا بينكم وبين سكّان الأرض الّتي ستدخلون عهدا، فتقلّدوا سلوكهم الشرّير وتقعوا في فخّه، بل عليكم أن تهدموا معابدهم وتحطّموا أصنامهم، وتقطعوا الأعمدة المخصّصة للآلهة أشيرة.
“إيّاكم أن تعبدوا إلهًا دوني، لأنّي أنا الله الأحد الصمد ولا أجيز أن تتّخذوا لي أندادا. فاحترسوا أن تبرموا معهم معاهدات، إنّهم كانوا بي مشركين حين يعبدون آلهتهم ويذبحون لها القرابين، ويدعونكم لتأكلوا من لحومها وقد أهلّ بها لغير الله. ثمّ من بعد المعاهدات تصاهرونهم، فتزوّجون أولادكم لبناتهم، فيوقعنهم في الإغواء ويعبدون آلهتهم فيصبحون بي مشركين. فإيّاكم إيّاكم أن تصنعوا أصنامًا مسبوكةً! واحتفلوا بعيد الفطير، وخلال سبعة أيّام، وفي الوقت المعلوم في شهر أبيب، ليكن خبزكم كما أمرتكم بلا خمير، لأنّي حرّرتكم من مصر في هذا الشهر.
“كلُّ بِكرٍ من ذكور أولادكم، وكلّ بِكرٍ من الأبقار والأغنام منذور لي. ولكم أن تفدوا أبكار البهائم بخروف، وإلاّ فاقتلوها. أمّا بكر أولادكم فافدوهم من أموالكم، وإيّاهم تحفظون، واحملوا معكم هدايا، إذا حججتم إلى الحرم المقدّس، إذ لا يجوز أن تأتوا إليّ دون هدايا.

خيمة بيت الله

وأوحى الله إلى النبي موسى: “إنّ عليكم نصب خيمة بيت الله(٣ في اليوم الأوّل من الشّهر الأوّل من هذه السنة. وضعوا فيها صندوق الميثاق واجعلوا الستار أمامه ليخفيه. وأدخلوا المائدة إليها ورتّبوا أوانيها عليها. وأدخلوا المنارة وعليها مصابيحها. وضعوا موقد البخور الذهبيّ أمام الصندوق، ثمّ علقوا الستار عند باب خيمة بيت الله. وضعوا مذبح لتقديم الأضاحي أمام بابها، وضعوا حوض الوضوء بين خيمة بيت الله والمذبح. ثمّ أقيموا حول الخيمة حرمًا وعلّقوا ستارًا على بابه.
ثمّ يا موسى، امسح بالزيت المقدّس خيمة بيت الله وكلّ ما فيها من أثاث، والمذبح وجميع أدواته. وامسح أيضا الحوض وقاعدته حتّى يصبحا مقدّسيْن ومخصّصيْن للعبادة. وأحضر يا موسى، إلى باب خيمة بيت الله هارون وبنيه وليغتسلوا بالماء، ثمّ ألبس هارون الثياب المقدّسة ومسحه بالزيت المقدّس وأنذره ليكون حَبرًا لي. وأحضر أبناء هارون وألبسهم قمصانًا ومسحهم بالزيت المقدّس كما مسحْتَ أباهم هارون ليكونوا أحبارًا منذورين لي دائما،(٤ على مدى أجيالهم”.(٥
وفعل النبي موسى ما أمره الله به. ولمّا استُفتِحتْ السنة الثانية بعد خروجهم من مصر، وفي يومها الأوّل من شهرها الأوّل، أقام النبي موسى خيمة بيت الله. فوضع قواعدها، وركَّب عليها ألواحها وعوارضها، وأقام أعمدتها. ثمّ وضع فوق هيكل خيمة بيت الله، كما أمره تعالى، غطاءا من طبقتين، طبقة من شعر الماعز وأخرى من الجلود. وأخذ موسى (عليه السّلام) لوحَيْ الميثاق فوضعهما في الصندوق وأدخل العصوين في حلقاته ووضع الغطاء فوقه. ثمّ أدخل صندوق الميثاق إلى الخيمة وعلَّق الستار ليخفيه، كما أمره الله تعالى. ثم وضع (عليه السّلام) المائدة خارج الستار في الجانب الشمالي للخيمة. ورتَّب عليها الخبز المقدّم لله، كما أمره تعالى. ووضع المنارة في الجانب الجنوبيّ للخيمة، وأنار المصابيح في المحراب المقدّس، طاعة لأمر الله. ثمّ وضع فيه موقد البخور الذهبيّ أمام الستار وأوقد عليه بخورًا عَطِرًا، كما أمره الله. وعلَّق على باب خيمة بيت الله ستارًا، ووضع مذبح الأضاحي عند باب الخيمة وأحرق عليه أضحية واستجاب النبي موسى لأمر الله فقدّم قربانا من الحبوب له تعالى.
ثمّ وضع النبي موسى، بأمر من الله، حوض الوضوء بين خيمة بيت الله والمذبح، ليتوضأ منه موسى وهارون (عليهما السلام) وبنوه، فيغسلوا أيديهم وأرجلهم حين يدخلون الخيمة وحين يقتربون من المذبح.
وأقام النبي موسى الحرم المقدّس حول خيمة بيت الله والمذبح وعلَّق على باب الحرم ستارًا. وبهذا أتمّ النبي موسى كلّ ما أمره الله به.

تجلّيات الله فوق خيمة بيت الله

ثمّ حلّت سحابة على مقام خيمة بيت الله فامتلأت بهاءًا ونورًا من عند الله،(٧ فلم يقدر النبي موسى على الدخول إليها. وكان بنو يعقوب يتابعون سفرهم ويلحقون بالسحابة كلما ارتفعت عن الخيمة، وكانوا يبيتون في مكانهم إلى أن ترتفع من جديد. وحلّت تجلّيات الله في شكل سحابة على الخيمة نهارًا، وكانت هذه السحابة تتخللها النار ليلاً حتّى يراها بنو يعقوب فيتابعون رحلتهم، ورافقتهم هذه التجلّيات على مدى سفرهم في الصحراء.

ذبيحة التكفير عن المذنبين

وأوحى الله إلى موسى (عليه السلام):
إن أخطأ أحد منكم فاعلا ما حرّمه الله، حتّى وإن ارتكبه سهوا، فهو مذنب ويجب أن يُعاقب حتما. فعليه أن يأتي إلى الحبر بكبشٍ بلا عيب أو بمقدار قيمته، ويكفّر الحَبر عن الشخص الذي اركتب الخطيئة سهوا بذبح هذا الكبش، فيغفر الله ذنبه. إنّ هذه الذبيحة هي تكفيرا عن ذنب المذنبين بحق الله

القوم يتذمّر

وكان بين بني يعقوب خليط من الغرباء يميلون إلى الشغب. وكان هؤلاء المشاغبون يشتَهون طيّبات مصر، فجاراهم عدد كبير من بني يعقوب واشتكوا قائلين: “ليتنا نحظى بقليل من اللحم! فنحن نذكر جيّدًا كميّات السمك، والخيار والبطّيخ والكُرّاث والبصل والثوم الّتي كنّا نأكل منها في مصر حتّى الشبع. والآن فقدنا شهيّتنا، فلا شيء نأكله غير المنّ”.

شكوى النبي موسى

وحدث في كلّ عشيرة أن بكى الناس على أبواب خيامهم، فاستشاط غضب الله عليهم وانزعج النبي موسى أيضًا. فخاطب (عليه السّلام) ربّه: “يا ربّ، لماذا تعاملني بهذه القسوة وأنا عبدك الضعيف؟ ولماذا لم ترضَ عني وحمّلتَني مسؤوليّة بني يعقوب كأولاد لي؟ ولماذا تطلب منّي أن أحملهم في حضني، كَما تحمل الأمّ رضيعها؟ ولماذا تطلب مني أن أحملهم إلى الأرض الّتي وعدتَ بها آباءهم من قبل؟ مِن أين أحصل على لحم لأُعطيه لكلّ هؤلاء الناس؟ فهُم يبكون أمامي مردّدين: أعطِنا لحمًا لنأكل! فلا طاقة لي لكي أتحمّل هذا العبء كلّه وحدي. فإن كنتَ تعاملني بهذه الطريقة، فأرجوك أن تميتني الآن! ارحمني! ولا تحمّلني هذه المسؤولية!”

النبي موسى يختار 70 قائدا

فأوحى الله إلى النبي موسى: “ادع سبعين رجلاً من بني يعقوب وليكونوا من شيوخ القوم وقادتهم، أن يرافقوك إلى خيمة بيت الله لتقفوا جميعًا هناك. فأتجلّى حينها وأوحي إليك، وآخذ قبسًا من الروح الّتي عليك وأُحِلّها عليهم أيضًا، فيحملون معك مسؤوليّة هذا القوم، فلا يمكن أن تحملها وحدك. وقل لبني يعقوب: “تطهّروا استعدادًا للغد، فستأكلون لحمًا لأنّكم بكيتم واشتكيتم وطلبتموه، متعلّلين أنّ أحوالكم كانت أفضل حالاً في مصر. وإنّ الله لشكواكم سميع بصير! وفي الغد سيرسل الله لكم لحمًا فتأكلونه لا محالة. وستأكلون منه لا يومًا واحدًا، ولا بضعة أيّام، بل شهرًا كاملاً حتّى تنفروا منه، لأنّكم رفضتم الله الّذي تجلّى بينكم، وبكيتم قائلين: لماذا أخرجنا من مصر؟” فاستجاب النبي موسى لكلام الله قائلاً: “فكيف تعطينا لحمًا لنأكل منه شهرًا كاملاً وعددنا ستّ مئة ألف رجل دون حساب نسائهم وأطفالهم؟ هل تكفينا كل مواشينا إذا ذبحناها؟ وهل يكفينا سمك البحر كلّه إذا اصطدناه؟” وهكذا أوحى الله إلى موسى (عليه السّلام) من جديد: “هل يد الله مغلولة؟ انظر الآن، فوعد الله يتحقّق”.
فخرج النبي موسى من الحرم وأخبر بني يعقوب بما أوحى الله به، ثمّ جمع سبعين رجلاً من شيوخ القوم وجعلهم يحيطون بخيمة بيت الله. فتجلّى الله لهم في الغمام وخاطب موسى (عليه السّلام). ثمّ أخذ الله من قبس روحه تعالى الّتي حلّت على النبي موسى وأحلّها أيضًا على السبعين شيخًا. ولمّا استقرّت عليهم تنبّأوا، ولكنّهم لم يتنبّأوا بعد ذلك أبدًا.
وبقي في المخيّم رجلان من مجموع السبعين شيخًا، وهما ألْداد وميداد فلم يدخلا الحرم المقدّس، ولكنّ روح الله حلّت عليهما فتنبّآ في مكانهما. فأسرع شابٌّ وأخبر موسى (عليه السّلام) بأنّ ألداد وميداد يتنبَّآن في المخيّم. فاعترض يوشع بن نون، وهو معاون النبي موسى منذ حداثته قائلاً: “أرجوك يا سيّدي، امنعهما من ذلك!” فأجابه النبي موسى: “ما هذا الحماس الّذي تحمله تجاهي؟ ليت جميع الناس أنبياءُ لتحلّ عليهم الروح الإلهية”. ثمّ عاد موسى (عليه السّلام) إلى المخيّم مع شيوخ بني يعقوب.
وجعل الله ريحًا تهب، فحملت مِن البحر طيور السلوى وألقَتْها على المخيّم، مسيرة يوم من هنا ويوم من هناك حول المخيّم، وتزاحمت هذه الطيور فوق الأرض ارتفاع ذراعين. فجمع بنو يعقوب طيور السلوى يومًا بأكمله ليلاً نهارًا وكامل يوم الغد. وجمع أقَلّهم ستّين كيسًا، وبسطوا لحمها حول المخيّم لتجِفَّ.(٥ وبينما كان بنو يعقوب يأكلون اللحم، اشتدّ غضب الله عليهم فضربهم بوباء شديد. وسُمّي ذلك الموضع “قبور الشهوة” لأنّهم دفنوا فيه الناس الّذين ماتوا من شدّة شهوتهم لِلَّحم. ورحل الشعب من “قبور الشهوة” إلى حَضيرُوت فأقاموا هناك.

الوصية الكبرى

وأخبر النبي موسى بني يعقوب: “هذه الوصايا والفرائض والأحكام هي الّتي أمرني الله ربّكم أن أُعلّمكم إيّاها لتعملوا بها في الأرض الّتي ستجتازون من أجلها نهر الأُردنّ لتستقروا فيها. هكذا تتّقون الله ربّكم أنتم وبنوكم وأحفادكم طوال حياتكم. وستتمتّعون بحياة طويلة إذا حفظتم جميع فرائض الله ووصاياه. فاحرصوا على طاعة كلّ هذه الوصايا، لتفلحوا وتتكاثروا في أرض تفيض لبنًا وعسلاً، كما وعدكم الله ربّ آبائكم الأوّلين.
يا بني يعقوب اسمعوا وعوا، الله هو الواحد الأحد، فأحبّوا الله ربّكم بكلّ قلوبكم وأنفسكم وقدراتكم. وعليكم أن تعملوا بكلّ جوارحكم لتحفظوا كلّ هذه الوصايا الّتي أُوصيكم بها اليوم! حدِّثوا بها أبناءكم مرارًا وتكرارًا، حين تجلسون في بيوتكم، وحين تمشون في الطريق، وحين تنامون وتستيقظون. اجعلوها كعلامة أيديكم وكعصائب على جباهكم. واكتبوها على قوائم أبواب بيوتكم ومداخل مدنكم. واعلموا أنّ الله ربّكم سيُدخلكم عاجلاً إلى الأرض الّتي وعد بها آباءكم: إبراهيم وإسحق ويعقوب، حيث تجدون مدنًا عظيمة مزدهرة لم تبنوها، وبيوتًا مملوءةً خيرًا لم تملأوها، وآبارًا محفورةً لم تحفروها، وأشجار كروم وزيتون لم تغرسوها. وحين تأكلون من هذه الطيّبات وتشبعون، لا تنسوا ربّكم الّذي أنقذكم من العبوديّة في مصر! فاسجدوا له تعالى، وكونوا له وحده من العابدين. ولا تقسموا بغير اسمه تعالى.(٨ وتوجّهوا بالدعاء إلى الله ولا تتّخذوا له شركاء من أرباب الأُمم الّذين جاوروكم. فإن فعلتم ذلك، يحتدِم غضبه تعالى عليكم ويبيدكم من الأرض، لأنّ الله ربّكم أختار أن يتجلّى بينكم، وإنّه لا يجيز شركاء له ولا أنداد.
لا تمتحنوا وفاء الله لوعوده كما فعلتم عندما تذمّرتم في صحراء سيناء في المكان المسمّى “محنة”، بل احرصوا على طاعته في جميع وصاياه وشروطه وأحكامه الّتي أمركم بها. واعملوا الصالحات وما يرضي الله لتتمكّنوا من دخول الأرض الّتي وعد بها آباءكم الأوّلين، وتستقرّون فيها. وإنّكم ستطردون جميع أعدائكم من تلك الأرض كما أخبركم الله تعالى.
وسيسألكم أبناؤكم في المستقبل: “ما الغاية من تلك الشروط والفرائض والأحكام الّتي أمرنا الله بها؟” وعليكم أن تجيبوهم بما يلي: لقد استعبدنا فرعون في مصر، ولكنّ الله حرّرنا من هناك بيده القديرة، وأجرى معجزات وعجائب عظيمة أمام أعيننا، وأنزل ضربات مخيفة بمصر وفرعون وحاشيته وأخرجنا من هناك ودلّنا على هذه الأرض الّتي وعد بها آباءنا الأوّلين. وأمرنا تعالى أن نعمل بهذه الأحكام كلّها وأن نتّقيه لكي نتمتّع بالخير دائمًا ونلقى حياة رضية. فنحن نحصل على مرضاته تعالى عندما نحرص على العمل بجميع هذه الوصايا الّتي أمرنا بها الله ربّنا”.

تحذير من ممارسات الأمم الوثنية

وأخبر النبي موسى قومه قائلاً: “يا بني يعقوب، حين تدخلون الأرض الّتي ائتمنكم عليها الله ربّكم، إيّاكم أن تقلّدوا العادات البغيضة الّتي تمارسها تلك الأُمم الوثنيّة. ولا يجوز أبدًا أن يكون بينكم مَن يقدّم ابنه أو ابنته ذبيحةً ويحرقها ولا مَن يمارس عِلم الغيب، ولا السحر ولا التنجيم ولا الشعوذة، ولا مَن يمارس رقيةً أو تعاويذ، ولا مَن يسأل الجنّ، أو يستدعي الأرواح أو يستشير الموتى. فإنّ كلّ مَن يمارس هذه الممارسات البغيضة مغضوب عليه. وسيطرد الله من أمامكم أولئك الأمم بسبب هذه الممارسات. أمّا أنتم فعليكم أن تكونوا مخلصين تمامًا لله ربّكم. والأُمم الّتي سيطردها الله ترحّب بكلّ مَن يمارس السحر وعلم الغيب، وأمّا أنتم فقد حرّم عليكم الله ربّكم مثل هذه الممارسات.

الوعد بقدوم نبيّ بعد موسى

وسيبعث الله من بين شعبكم نبيًّا آخر مثلي، وعليكم طاعته فيما يقوله. لأنّكم طلبتم من الله ربّكم حين اجتمعتم في جبل سيناء أن يقطع تجلّياته العظيمة في النار أمامكم لئلاّ تموتوا. فأوحى الله إليّ: “لقد أصاب قومك في ما قالوا. وسأبعث إليهم نبيًّا مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي على لسانه، فيبلّغهم كلّ ما أوحي به إليه. وكلُّ من يعصي ما أوحي به على لسانه أحاسبه على ذلك. وأمّا من ادّعى أنّه نبيّ مرسلٌ من عندي، أو تكلَّم باسم آلهة أخرى، فجزاؤه الموت. وربّما تتسألون: “كيف لنا أن نتأكّد أنّ الرسالة من عند الله؟” فإنّ تنبّأ أحد وادّعى أنّ رسالته من الله ولم يتحقّق ما ادّعاه، يكون بذلك مدّعيًا، فلا خوف عليكم منه.

النبي موسى يتنبأ بخصوص جزاء من يطيع الله

وأخبر النبي موسى قومه قائلاً: “إذا اتّبعتم كلام الله ربّكم وحرصتم على العمل بجميع وصاياه الّتي آمركم بها اليوم، يجعلكم تعالى في مقام رفيع فوق جميع أمم الأرض. أجل، ستنعمون بهذه البركات كلّها إذا سعيتم إلى طاعة الله ربّكم. ويبارككم الله في المدينة ويبارككم في الريف، ويبارككم فيكثر من أولادكم ومحاصيل أراضيكم ونتاج أبقاركم وأغنامكم، ويبارككم فتفيض سلالكم بالثمار والخبز. أجل، ستحلّ بركاته عليكم أينما حلّلتم، ذهابًا وإيّابًا، وسينصركم الله على أعدائكم حين يهاجمونكم، فيُقبِلون عليكم من اتّجاه واحد، ولكنّهم يُوَلّون أدراجهم خائبين في سبع اتّجاهات! إنّ الله سيرسل بركاته إلى مخازنكم وإلى كلّ ما طالته أيديكم، ويبارك الأرض الّتي وهبها لكم.
فإذا عملتم بوصايا الله ربّكم وسلكتم الصراط المستقيم، يجعلكم أمّة منذورة له، كما وعد من قبل، فتهابكم جميع شعوب الأرض لأنّكم تنتمون إليه تعالى. ويزيدكم الله خيرًا في الأرض الّتي وعد بها آباءكم الأوّلين، ويجعل الأولاد والمواشي والمحاصيل زينة حياتكم. ويُنزل عليكم الغيث في أوانه من فيض كنوزه في السماء، ويبارك جميع أعمال أياديكم، فتقترض منكم أُممٌ كثيرة وأنتم لا تقترضون. ويجعلكم رأسًا للأُمم لا ذنبًا ويرفع شأنكم ولا يقلّل منه أبدًا، شرط أن تحرصوا على العمل بوصايا الله مولاكم الّتي بلّغتكم بها اليوم. فإيّاكم أن تزيغوا عن أي وصيّة من الوصايا الّتي آمركم بها الآن فتضلّون وتُشركون به تعالى!

النبي موسى يتنبأ بخصوص جزاء من يعصي الله

يا بني إسرائيل، إذا رفضتم طاعة الله ربّكم والعمل بكلّ الوصايا والفرائض الّتي بلغتُكم بها اليوم، فستلاحقكم هذه اللّعنات كلّها وتحلّ عليكم لا محالة: تلاحقكم اللّعنة في المدينة وتلاحقكم في الريف، لعنةٌ تجعل سلالكم لا ثمار ولا خبز فيها. لعنةٌ تقلّل من أولادكم ومحاصيل أراضيكم ونتاج أبقاركم وأغنامكم. وتلاحقكم اللّعنة فتصيبكم بالنائبات أينما حلّلتم ذهابًا وإيّابًا!
أجل، فالله يتبعكم باللّعنة والهلع والبلاء في كلّ ما تطاله أيديكم وكلّ ما تعملونه، حتّى تهلكوا وتفنوا نهائيًا لأنّكم زرعتم الشرّ وتركتموه. ويجعل الله الوباء يلازمكم إلى أن يبيدكم من الأرض الّتي أوشكتم على دخولها لتستقرّوا فيها. ويضربكم بأمراض تصيبكم بالهزال والحُمّى والالتهاب والجفاف والحرارة اللافحة والذبول، فتلاحقكم كلّ هذه البلايا حتّى الموت. وتنحبس السماء مِن فوقكم كالنحاس وتقسو الأرض عليكم من تحتكم كَالحديد. ويحوّل الله المطر في بلادكم إلى غبار وتنهمر عليكم عواصف العجاج من السماء حتّى تهلكوا. ويلحق بكم الهزائم أمام أعدائكم، فتُقبِلون عليهم من اتّجاه واحد، ولكنّكم تُوَلّون أدراجكم في سبع اتّجاهات! وتعيشون في المهجر مشتّتين في أنحاء شعوب الأرض. وتصير جثثكم طعامًا للطيور الجارحة والحيوانات المتوحّشة ولا أحد يزجرها. ويصيبكم الله بالدمامل الّتي ضرب بها المصريّين، وبالورم والجرب والحكّة ولا تجدون لها علاجًا. ويضربكم بالجنون والعمى والهلع، فتتلمّسون طريقكم في وضح النهار كما يتلمّس الأعمى طريقه، ولكنّكم لا تفلحون في ايجاده. وتقعون فريسة الظلم والاغتصاب طوال أيّام حياتكم، وما لكم من الظالمين من أنصار. وعندما يخطب أحدكم امرأةً، يأخذها رجل آخر ويعاشرها، وتبنون بيوتًا فلا تقيمون فيها، وتغرسون كرمًا فلا تتمتّعون بثماره. وتُذبَح ثيرانكم أمام أعينكم ولا تأكلون منها، وتؤخذ دوابّكم مِن أمامكم غصبًا فلا تُعاد إليكم، وتُسلَّم أغنامكم إلى أعدائكم، وما لكم من الظالمين من أنصار. ويُساق أولادكم وبناتكم عبيدًا أمام أنظاركم، ولا تستطيعون فعل شيء. سيأتي عليكم شعب لا تعرفونه ويستولي على محاصيل أراضيكم الّتي تعبتم في زرعها، وتقاسون الظلم والمعاناة على الدوام. وتصابون بالجنون من المآسي الّتي تحيط بكم. ويضربكم الله بقروح خبيثة على الركبتين والرجلين، وتمتدّ من القدم إلى الرأس، ولا تجدون لها علاجًا.
وينفيكم الله وملككم الذي نصبتموه إلى شعوب ما عرفتموهم ولا عرفهم آباؤكم من قبل، وهناك ستُشرِكون بالله وستعبُدون أصنامهم من خشب وحجارة. وسترمقكم هذه الشّعوب بالسخرية والإزدراء والاشمئزاز. وتزرعون بذورًا كثيرة في الحقول وقليلاً تحصدون لأنّ جرادًا يلتهمها. وتغرسون كرومًا وتفلحونها، ومن ثمارها لا تجنون، ومن عصيرها لا تشربون بل دود يأكلها. تكتظّ أراضيكم بأشجار الزيتون، ولكنّها تطرح ثمارها قبل نضجها، ومن زيتها لا تستفيدون. وتنجبون بنين وبنات ولكنّكم تخسرونهم جميعًا لأنّهم إلى الأسر يؤخذون. وتلتهم أسراب الجراد أشجاركم ومحاصيل أراضيكم. ويعظم شأن الغرباء المقيمين بينكم، بينما يقلّ شأنكم، وتقترضون منهم ولا يقترضون منكم، ويكونون الرأس وتكونون الذنب. وإذا رفضتم طاعة الله ربّكم والعمل بالوصايا والأحكام الّتي أمرتكم بها، ستلاحقكم كلّ هذه اللّعنات وتحلّ عليكم في النهاية حتّى تهلكوا، لتكونوا عبرةً لغيركم وإنذارًا لذريّتكم إلى الأبد.
وإذا لم تعبُدوا الله ربّكم بفرح وسرور لخيراته الوفيرة الّتي أنعم بها عليكم، فسيُرسل أعداء يلحقون بكم الجوع والعطش والعُري والفقر المدقع، ويحملكم أوزاركم على ظهوركم إلى أن تهلكوا. ويجلب لكم أمّة من أقاصي الأرض، تنقَضّ عليكم كالنسر الّذي ينقض على فريسته، أمّة لا تفهمون لغتها، شرسة لا تحترم المسنّين ولا تعطف على الأطفال، فتلتهم جيوشها مواشيكم ومحاصيل أراضيكم، ولا يبقى لكم حنطة ولا عصير عنب ولا زيت ولا عجول ولا حملان فتموتون جوعًا. وتحاصركم في جميع مدنكم وتدمّر أسواركم الشامخة المحصّنة الّتي تحتمون بها في أنحاء أراضيكم الّتي ائتمنكم عليها الله ربّكم. ويكون هذا الحصار الّذي يُسلطه عليكم أعداؤكم شديدًا إلى درجة تأكلون فيه لحم بنيكم وبناتكم الّذين يعطيكم الله ربّكم. وأكثر الرجال رقّةً وشفقةً يأكل أبناءه من شدّة الجوع ولا يعطي من لحمهم لأخيه أو زوجته أو ما تبقّى من أولاده. وحتّى أكثر الأمهات افراطًا في الإحساس تأكل مولودها سرًّا، ولا تعطي منه ولا من مشيمته لزوجها وابنها وابنتها. ويحاصركم أعداؤكم في جميع مدنكم.
وإن رفضتم طاعة جميع تعاليم هذا الكتاب، كتاب الشريعة، ولم تهابوا اسم الله ربّكم المجيد، فإنّه سيرسل عليكم وعلى ذرّيّتكم بلايا رهيبة ومصائب مخيفة وأمراضًا خبيثة مزمنة. ويبليكم بجميع الأمراض التي ضرب بها المصريين وفزعتم منها، فلا يأتيكم فرج. أجل، سيعذّبكم الله حتّى تهلكوا بكلّ أنواع الأمراض والمصائب، ومنها من لم يذكر في كتاب الشّريعة هذا. وحتّى وإن تزايد عددكم وأصبح كنجوم السماء كثرةً، لن يبقَ منكم إلاّ قلّة لأنّكم أبيتم أن تمتثلوا لطاعة الله ربّكم. وكما أراد الله في بداية أن يُحسِن إليكم ويُكثِّر عددكم، فإن تمرّدتم عليه فهو يرغب في أن يبيدكم ويُهلِككم، فيجتثكم من الأرض الّتي أوشكتم على دخولها والاستقرار فيها. فيشتّتكم في كلّ شعوب العالم، من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، وتُشرِكون بالله هناك وتعبُدون آلهة غريبة من خشب وحجارة لم تعرفوها وما عرفها آباؤكم من قبل. وتستقرّون في تلك الأمم ولا تعودون إلى أراضيكم، وهناك يملأ الله قلوبكم رعبًا ويقلّل من أبصاركم ويهيمن اليأس على نفوسكم. فيلازمكم الرعب ليلاً نهارًا ولا تأمَنون على حياتكم. تقولون في الصباح: “ليتَنا نحيا إلى المساء”، وتقولون في المساء: “ليتنا نحيا إلى الصباح”. فتمتلئون هلعًا من الأهوال التي تحيط بكم. ويَرُدّكم الله على متن السفن إلى مصر، البلاد الّتي أخرجكم منها ووعدكم بأن لا تعودوا إليها مرة أخرى، وهناك تحاولون أن تبيعوا أنفسكم لتكونوا عبيدًا وجواري لأعدائكم، وما من أحد ليشتريكم”.

رحيل النبي موسى

ثمّ اجتاز النبي موسى وقومه سهول مُوآب، وصعد دون غيره إلى قمّة الفِسجة في جبل نَبو، في الجهة المقابلة لمدينة أريحا، حيث أراه الله كلّ الأرض التي تمتدّ شمالا إلى جِلعاد وحتّى إلى دان قرب جبل الشيخ. وتوفّي النبي موسى عبدُ الله في أرض مُوآب كما أوحى الله، وجعله تعالى يُوارى الثرى في الوادي، في أرض موآب، بجوار بيت فَغور، ولا يعرف أحدٌ موقع قبره إلى يومنا هذا. وعاش (عليه السّلام) مئة وعشرين سنة، لم يعرف فيها بصره ضعفا ولم تذهب نضارة بشرته. فناح بنو يعقوب على موسى في سهول موآب ثلاثين يوما، حتّى انقضاء فترة الحداد.
وجعل الله يوشع بن نون مفعما بروح الحكمة، إذ باركه النبي موسى بأن وضع يده عليه. وهكذا خضع له بنو يعقوب وأطاعوا أمر الله كما جاء في الوحي إلى النبي موسى. ومنذ ذلك الحين لم يأت نبيٌّ في بني يعقوب كالنبي موسى (عليه السّلام)، إذ كلّمه الله تكليما، ولم يكن له مثيل (عليه السّلام) في كلّ المعجزات التي أجراها الله على يديه في أرض مصر، تلك الآفات التي أنزلها من خلاله على فرعون وحاشيته وقومه أجمعين. فلم يُجر نبي بعده مثل هذه الآيات المهيبة أمام أنظار جميع بني يعقوب.
بعد وفاة النبي موسى، قاد خلفه يشوع بن نون قوم بني يعقوب إلى الأرض التي ائتمنهم الله عليها. وأطاع بنو يعقوب الله طوال فترة قيادة يشوع بن نون لهم، لكنهم ارتدّوا بعد وفاته وعبدوا الأوثان. فأرسل الله إليهم برحمته حكّاما دينيين ليحكموهم ويرشدوهم إلى سوي السبيل. ولكنهم تمادوا في عصيانهم. وعلى امتداد 300 سنة ظهر هؤلاء الحكّام وحكموا بني يعقوب.