قصّة سيدنا عيسى

مدخل إلى سيرة سيدنا عيسى

يعتبر سيدنا عيسى بن مريم (سلامه علينا) فريدا في مولده وفي حياته وفي رحيله عن هذه الدنيا. وهو فريد حتى قبل مولده بما أن عددا من الأنبياء القدامى تنبؤوا بمجيئه إلى هذا العالم.

مولده ولد السيد المسيح بطريقة فريدة في الكون، وقد كتب عنه أمير الشعراء أحمد شوقي: “ولد الرفق يوم مولد عيسى”. وكان ميلاده من بنت عذراء، وهو الوحيد في تاريخ البشرية الذي ولد بهذه الطريقة. ويضاهي في مولده الفريد طريقة خلق آدم الإنسان الأول، الذي خلق أيضا بطريقة فريدة. لهذا السبب كتب الحواريون عن السيد المسيح باعتباره آدم الثاني. وبشرت الملائكة بمولده العجيب وأعلنت أنه المنقذ المنتظر.

تعاليمه وتميز السيد المسيح بتعاليمه الفريدة، وقال عنه أعداؤه: ((لم نر أحدا تكلم بمثل ما يتكلم به هذا الرجل أبدا!)) [الإنجيل، يوحنا 7: 46]. ويعترف الناس حول العالم (ولا نستثني الملحدين منهم) أنّ سيدنا عيسى المسيح هو من أعظم معلمي الأخلاق في تاريخ البشرية.

خلافته الروحانية إن جوهر تعاليم السيد المسيح يكمن في إعلانه تأسيس المملكة الربانية، أي الخلافة الروحانية الحقيقية التي أنزلها الله في البداية على آدم وذريته، إلّا أنها تلاشت منهم بسبب عصيانهم. وحصل النبي داود على الخلافة من جديد، لكنه قصّر في هذه المسؤولية فانهارت مملكته. لكن الله تعالى جدّد مملكة النبي داود بمعنى حقيقي ثابت مستقيم من خلال تجلّي السيد المسيح، ألا وهو الوريث الحقيقي الخالد لخلافة النبي داود، ومملكته الجديدة ليست حكرا على بني يعقوب بل تشمل جميع الأمم والشعوب.

معجزاته إن المعجزات التي أجراها السيد المسيح خارقة وفريدة، إذ شفى الأعمى وعالج الأبرص وأحيى الموتى ونال علم الغيب بإذن الله (انظر سورة آل عمران: 49).

تضحيته بحياته وكان ختام حياة السيد المسيح فريدا أيضا إذ ضحّى بحياته وأقامه الله من الموت فظهر لرفاقه. وجاء على لسانه في القرآن: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33]. وكان سيدنا المسيح فريدا، إذ سلّم حياته للموت فدية للآخرين، وتنبّأ بتضحيته بحياته ثلاث مرات قبل حدوثها (انظر مثلا الإنجيل، لوقا 8: 44-45). وتنبّأ الأنبياء الأولون بموته أيضا (انظر مثلا كتاب الزبور، المزمور 22، وكتاب النبي أشعيا، الفصل 53).

انبعاثه ونصره أنصف الله تعالى السيد المسيح وأظهر رضوانه عليه وعلى التضحية بحياته من خلال بعثه من الموت. وآمن اليهود في ذلك الزمن أنّ الله سيحيي عباده الصالحين عند قيام الساعة (انظر كتاب النبي دانيال 12: 2). ولكنّ الله بعث سيدنا عيسى المسيح حيا قبل يوم القيامة فهو رائد أهل القيامة. وفي قيامته نعلم علم اليقين أن البعث حق ودار الخلود حقيقة لجميع الصالحين.

نزوله في آخر الزمان وبعد أن بُعث سيدنا عيسى حيا، صعد إلى السماء. وفي آخر الزمان سينزل من هناك إلى الأرض. ويشير القرآن إلى نزوله في هذه الآية: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف: 61]. يرى المفسرون أن هذه الآية تتعلق بظهور عيسى كدليل على مجيء الساعة. إنه يأتي لكي يقضي على الدجّال وليحكم حَكَما عادلا، فيملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن مُلئت ظلما وعنفا وفسادا. سيأتي بمملكة الله الموعودة ويقيمها في الأرض، حيث تدوم إلى أبد الآبدين.

قصّة سيدنا عيسى سلامه علينا

البشرى لمريم بميلاد السّيّد المسيح

ولمّا بَلَغَت أَليصاباتُ شَهرَها السّادِسَ مِنَ الحَملِ، أرسَلَ اللهُ المَلاكَ جِبريلَ إلى بَلدةِ النّاصِرة في الجَليلِ، إلى فَتاةِ عَذراءَ اسمُها مَريمُ كانَ قِرانُها قد عُقِدَ لِرَجُلٍ مِن سُلالةِ النّبيِّ داوُدَ، اسمُهُ يوسفُ.(٢) فجاءَها قائلاً: “السَّلامُ عليكِ يا مَن أنعَمَ اللهُ عليها مِن بَينِ النِّساءِ، مُبارَكةٌ أنتِ بَينَهُنّ، مَولانا مَعكِ!”(٣) فاضطَرَبت مَريمُ مِن كَلامِهِ، وتَساءَلت في نَفسِها عن مَعنى هذِهِ التَّحيّةِ، فَبَدّدَ المَلاكُ اضطِرابَها مُجيبًا: “لا تَخافي يا مَريمُ، فإنّ اللهَ تَعالى قد رَضِيَ عنكِ، وستَحملينَ بِطِفلٍ تَلدينَهُ وتُسَمّينَهُ عيسى(٤) ويَكونُ شأنُهُ عَظيمًا، وسيَحظى بلَقَبِ الابنِ الرُّوحيِّ للهِ العَليِّ،(٥) ويُوَلّيهِ اللهُ عَرشَ سَلَفِهِ النَّبيِّ داودَ فيَكونُ مَلِكًا على بَني يَعقوبَ وتَدومُ مَملَكَتُهُ إلى الأبَدِ”. وسألَت مَريمُ (عليها السّلام) المَلاكَ جِبريلَ قائلةً: “كَيفَ أَحمِلُ بِوَلَدٍ ولم يَمسَسْني بَشَرٌ؟ وأنا عَذراءُ بَتَول؟!” فأجابَها جِبريلُ: “سَتَنعَمينَ بحُلولِ رُوحِ اللهِ عليكِ، وستَكونينَ مَحميةً مُظَلّلةً بقوّةِ اللهِ ورِعايتِهِ. ولِهذا السَّبَبِ سيُدعَى مَولودُكِ المَنذورُ الابنَ الرُّوحيَّ للهِ، وما هذا على اللهِ بِعَسيرٍ، فها هي قَريبتُكِ أَليصاباتُ قد مَنّ اللهُ عليها بالذُّرّيّة وهي عَجوزٌ عاقِرٌ، وهي الآنَ في الشَّهرِ السّادسِ مِن حَملِها، فإنّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ”. فقالَت مَريمُ (عليها السّلام)، مُسَلِّمةً لله: “إنّي أَمَة اللهِ راضيةٌ بمَشيئتِهِ”. وحينئذٍ ترَكَها جِبريلُ ومَضى.

الميلاد الشريف للسّيّد المسيح

وانقَضَت بَعدَ هذِهِ الأحداثِ فَترةٌ مِن الزَّمَنِ، قامَ فيها القَيصرُ أَغُسْطُس(٧) بإصدارِ مَرسومٍ لإحصاءِ سُكّانِ إمبِراطوريّتِهِ،(٨) وتَمَّ إجراؤهُ قَبلَ زَمَنِ وِلايةِ كِيرينيُوسَ الرُّومانيِّ على بِلادِ الشّامِ. ووُجِّهَ كُلُّ فَردٍ إلى بَلَدِ أسلافِهِ لأجلِ الإحصاءِ، وتَرَكَ يُوسفُ وهو مِن آلِ داودَ، لهذا السَّبَبِ النّاصرةَ في الجَليلِ مُتَوَجِّهًا إلى بَيتَ لَحمَ في مِنطقةِ يَهوذا، بَلدةِ النّبيِّ داودَ (عليه السّلام) مَعَ خَطيبَتِهِ مَريمَ (عليها السّلام)(٩) وقد كانَت تَحمِلُ أمرَ اللهِ في أحشائِها. وحانَ وَقتُ وَضعِها وهُما في بَيتَ لَحم. فوَضَعَت بِكرَها ثُمّ لَفَّتْهُ وأنامَتْهُ في مِعلَفٍ لأنّ غُرفةَ الضُّيوفِ ضاقَت بِهِم.(١) وكانَ في مِنطقةِ بَيتَ لَحمَ رُعاةٌ يَبيتونَ في المَراعي ليَحرِسوا قُطعانَهُم في اللّيلِ. وفَجأةً ظَهَرَ لهُم مَلاكٌ وغَمَرَهُم نورٌ مِن اللهِ وجَلالٌ، فارتاعوا مِن ذلِكَ، ولكنّ المَلاكَ طَمأنَهُم قائلاً: “لا تَفزَعوا فإنّما جِئتُ لأُبَشِّرَكُم بهذا النَّبأ العَظيمِ الّذي سيَفرَحُ بِهِ كُلُّ الشَّعبِ! اليَومَ وُلِدَ مُنقِذُكُم في بَلدةِ النَّبيِّ داودَ! وُلِد المَسيحُ المُنتَظَرُ مَولاكُم،(٢) وسأدُلُّكُم عليهِ، إنّهُ مَولودٌ مُقَمَّطٌ مَوضوعٌ في المِعلَفِ”. ثُمّ بَدَا فَجأةً مَعَ هذا المَلاكِ طائفةٌ مِن المَلائكةِ آخَرونَ يُسَبِّحونَ اللهَ رَبَّ العالَمينَ قائلينَ: “سُبحانَ اللهِ في عُلاهُ، وسَلامُهُ على النّاسِ في الأرضين، ورِضاهُ على مَن نالَ مِنهُ الرِّضَى”. وعادَ المَلائكةُ إلى السَّماءِ فأخَذَ الرُّعاةُ يَتَناجَونَ فيما بَينَهُم قائلينَ: “لِنَذهَبْ إلى بَيتَ لَحمَ ونَرَ هذا الحَدَثَ الّذي أنبأنا اللهُ بِهِ”. وأسرَعوا إلى بَيتَ لَحمَ، فوَجَدوا مَريمَ (عليها السّلام) ويُوسفَ ومَعَهُما الطِّفلُ نائمًا في المَعلَفِ. فتَوَجَّهوا إلى النّاسِ مُخبِرينَ بنَبأ هذا الطِّفلِ الّذي زَفَّهُ إليهِم المَلاكُ، فأخَذَت الدَّهشةُ كُلَّ الحاضِرينَ. إلاّ أنّ مَريمَ (عليها السّلام) احتَفَظَت في نَفسِها بِكُلِّ ما مَرَّ بها وكانَت دائمًا تَستَرجِعُهُ مُتَأمّلةً، وعادَ الرُّعاةُ أدراجَهُم مُرَدِّدينَ: “الحَمدُ للهِ على ما سَمِعنا ورَأينا، فقد كانَ ما أنبأنا بِهِ المَلاكُ حقًّا”.

تغطيس السّيّد المسيح

وبَعدَ فَترةٍ، بَدَأت بِشارة يَحيى بِن زَكَريّا (عليه السّلام) في بَراري مِنطَقةِ يَهوذا(٤) فقالَ مُبَشِّرًا: “يا أيُّها النّاسُ تُوبوا إلى اللهِ، فقد آنَ أوانُ قيامِ مَملَكةِ الله المَوعودةِ على الأرضِ!” والنَّبيُّ يَحيى هو الّذي تَحَدَّثَ عَنهُ النَّبيُّ أشعيا في قَولِهِ: “صَوتٌ مُنادٍ في البَراري يَقولُ: عليكُم أن تُهَيّئوا نُفوسَكُم لمَولاكُم، مِثلَما تُمَهَّدُ السُّبُلُ لمَقدَمِ مَلِكٍ عَظيمٍ”. وكان يَحيى (عليه السّلام) يَعيشُ حَياةَ زُهدٍ وتَقَشُّفٍ إذ كانَ يَرتَدي ثَوبًا مِن وَبرِ الجِمالِ ويُحيطُ وَسَطَهُ بحِزامٍ جِلديّ. ولم يَكُن قُوتُهُ إلاّ الجَراد والعَسَل البرّي. وكانَ النّاسُ يأتونَهُ مِن القُدسِ ومِن كُلِّ أنحاءِ مِنطَقةِ يَهوذا وأرجاءِ وادي نَهَرِ الأُردُنّ للإصغاءِ إليهِ، وبَعدَ اعتِرافِهِم بآثامِهِم يَقومُ بتَغطيسِهِم في مياهِ الأُردُنّ دَليلاً على تَوبتِهِم.(٥) وقد رأى النَّبيُّ يَحيى (عليه السّلام) أنّ كَثيرينَ مِن طائفةِ المُتَشَدِّدينَ ومِن الصَّدّوقيّينَ قد وَفَدوا عليهِ لغايةِ التَّطَهُّرِ، فالتَفَتَ إليهِم قائلاً: “أيُّها الماكِرونَ الخُبَثاءُ كالأفاعي، أتَظُنّونَ أنّكُم بمُجَرَّدِ تَطَهُّرِكُم بالماءِ تَفِرّونَ مِن غَضَبِ اللهِ؟ اعلَموا أنّكُم إن أرَدتُم ذلِكَ فلا بُدَّ أن تَدُلَّ أعمالُكُم الصّالِحةُ على تَوبتِكُم عن آثامِكُم تَوبةً نَصوحًا، وإيّاكُم أن تَركُنوا إلى القَولِ: “نَحنُ شَعبُ اللهِ المُختارُ وأحِبّاؤهُ، وإنّنا نَنحَدِرُ مِن سُلالةِ النّبيِّ إبراهيمَ”. فإنّ هذا لن يُفيدَكُم بشَيءٍ، لأنّ اللهَ قادِرٌ أن يَجعَلَ مِن هذِهِ الحِجارةِ ذُرِّيّةً لإبراهيمَ بَدَلاً مِنكُم! واحذَروا غَضَبَ اللهِ فإنّهُ كالفأسِ الّتي تُوشِكُ أن تَهوي على جُذوعِ الأشجارِ الّتي لا تُؤتي أُكلاً طَيّبًا لتُحيلَها حَطَبًا يُلقَى في النّارِ. إنّكُم وهذِهِ الأشجارَ سَواء! ولئن طَهَّرتُكُم بالماءِ دَلالةً على تَوبتِكُم، فإنّ القادِمَ مِن بَعدي أرفَعُ مِنّي مَقامًا، حتّى أنّي لَستُ أهلاً لأن أكونَ عَبدَهُ وأَحُلَّ رِباطَ نَعلَيْه. فهو الّذي سيُطَهِّرُ برُوحِ اللهِ التّائبينَ، بَينَما يُلقي الآثِمينَ في النّارِ! وهو الّذي سيَفصِلُ بَينَ النّاسِ كَما يُنَقّي الفَلاّحُ بُذورَهُ إذ يَحتَفِظُ بالصّالِحةِ مِنها في دارِ البَقاءِ ويَطرَحُ القُشورَ في نارٍ لا يَنطَفئ أوَارُها”. ثُمّ قَدِمَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) مِن الجَليلِ إلى ضِفافِ نَهرِ الأُردُنّ بُغيةَ التَّطَهُّر بمياهِهِ على يَدِ النَّبيِّ يَحيى (عليه السّلام). ولكنّ النَّبيَّ يَحيى أحجَمَ عن ذلِكَ والتَفَتَ إلى عيسى (سلامُهُ علينا) قائلاً: “بل أنا الّذي يَحتاجُ إليكَ لأتَطَهُّرَ، فكَيفَ تَطلُبُ مِنّي أن أُطَهَّرَكَ؟!” فأجابَهُ مؤكِّدًا: “بَلى افعَلْ ما جِئتُكَ مِن أجلِهِ تَحقيقًا لمَرضاةِ اللهِ”. فأذعَنَ يَحيى (عليه السّلام) لأمرِ سَيِّدِنا عيسى.(٦) وما إن خَرَجَ عيسى (سلامُهُ علينا) مِن الماءِ حتّى انشَقَّت السَّماءُ، فرأى هُبوطَ رُوحِ اللهِ مِثل حَمامةٍ واستَقَرَّت عليهِ، وأقبَلَ مِن السَّماءِ صَوتٌ يَقولُ: “هوذا الحَبيبُ، الابنُ الرُّوحيُّ لي، وقد رَضِيتُ عَنهُ كُلَّ الرِّضى”.

السيّد المسيح الذّبح العظيم

وفي اليَومِ التّالي رأى النَّبيُّ يَحيى (عليه السّلام) سَيِّدَنا عيسى (سلامُهُ علينا) مُقبِلاً عليهِ فقالَ لِمَن حَولَهُ: “اُنظُروا، هو ذا الذِّبحُ العَظيمُ المُرسَلُ مِن اللهِ ليُزيلَ عن البَشَرِ ذُنوبَهُم، هو ذا مَن حَدَّثتُكم عَنهُ عِندَما قلتُ: يَجيءُ مِن بَعدِي مَن هو أرفَعُ مِنّي شأنًا، فهو المَوجودُ قَبلي،(٩) وإنّني لم أكُن أعرِفُ مَن سيَكونُ، ولكنَّ اللهَ أرسَلَنِي لِتَطهيرِ النّاسِ بالماءِ في انتِظارِ أن يَكشِفَ هويّتَهُ لي، حتّى أكشِفَها لِبَني يَعقوبَ”.(١) وتابَعَ النَّبيُّ يَحيى (عليه السّلام) شَهادتَهُ قائلاً: “رأيتُ هُبوطَ رُوحِ اللهِ مِنَ السّماءِ كحَمامةٍ لتَستقِرَّ على عِيسَى (سلامُهُ علينا)، ولم أكُن أدري أنّ هذا الشَّخصَ هو المَسيحُ المُنقِذُ، إلاّ أنّ اللهَ الّذي أرسَلَني لِتَطهيرِ النّاسِ بالماءِ أوحَى إليّ: “عِندَما تَرى رُوحَ اللهِ تَنزِلُ على شَخصٍ وتَحِلُّ فيهِ، فاعلَم أنّهُ مَن سيُطَهِّرُ النّاسِ بِرُوحي المُقَدَّسة”. وقد تَحَقّقتُ مِن ذلِكَ بنَفسي، لذا أشهَدُ أنّهُ صَفيّ اللهِ”.

إغواءات إبليس للسّيّد المسيح

وتَوَجَّهَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى البَراري مُنقادًا برُوحِ اللهِ ليَتَعَرَّضَ لإغواءاتِ إبليسَ. وبَعدَ أربَعينَ يومًا بلياليها قَضاها صائمًا أخَذَ الجُوعُ مِنهُ كُلَّ مأخذٍ،(٤) أتاهُ إبليسُ مُوَسوِسًا: “أنتَ الابنُ الرُّوحيُّ للهِ، قُل لهذِهِ الحِجارةَ فتَصيرَ خُبزًا تَرُدَّ بِهِ الجوعَ عنكَ”. فأجابَهُ (سلامُهُ علينا) قائلاً: “جاءَ في التَّوراةِ: “لَيسَ بالخُبزِ وَحدَهُ يَحيا الإنسانُ، بل بطاعتِهِ لكُلِّ أمرٍ جاءَ مِن عِندِهِ تَعالى”. إلاّ أنّ إبليسَ لم يَيأس، فقادَهُ إلى المَدينةِ المُقَدَّسةِ، حَيثُ وَقَفَ بِهِ على أعلى مَكانٍ في الحَرَمِ الشَّريفِ وقالَ لهُ: “ألَستَ الابنَ الرُّوحيَّ للهِ، فألقِ بنَفسِكَ مِن هذا العُلوّ، ولا تَخَفْ، فقد جاءَ في كِتابِ الزَّبورِ أنّ اللهَ يوصِي ملائكتَهُ بكَ فيُسرِعونَ لِحَملِكَ بَينَ أيديهِم، كَي لا تَصطَدِمَ قَدَمُكَ بحَجَرٍ”.(٥) فأجابَهُ عيسى (سلامُهُ علينا) بالقَول: “لقد أمَرَنا اللهُ أيضًا في التّوراةِ قائلاً: لا تَمتَحِنْ وَفاءَ اللهِ لوعودِهِ”. ثُمّ اقتادَ إبليسُ عيسى (سلامُهُ علينا) إلى قِمّةِ جَبَلٍ عالٍ وأراهُ كُلَّ مَمالكِ الدُّنيا وبَهاءَها، وقالَ لهُ: “سيَكونُ ذلكَ رَهنَ يَديكَ شَرطَ أن تَركَعَ وتَسجُدَ لي”.(٦) فقالَ لهُ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا): “إليكَ عنّي أيُّها الشَّيطانُ، لقد جاءَ في التّوراةِ: “اُسجُد للهِ رَبِّكَ، وكُن لهُ وَحدَهُ مِن العابِدينَ”. وعِندئذٍ ابتَعَدَ عَنهُ إبليسُ وحَلَّت الملائكةُ مَحلَّهُ وقامَت على خِدمتِهِ.

السّيّد المسيح وشيخ الدّين

وذاتَ يومٍ، جاءَ رَجُلٌ مِن قادةِ اليَهودِ إلى سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) تَحتَ جُنحِ اللّيلِ، وقد كانَ يَنتمي إلى طائفةِ المُتشدِّدينَ، واسمُهُ نِقوديموسُ فقالَ لهُ: “أيُّها المُعلِّم، نَحنُ نَعلَمُ أنّ اللهَ أرسَلَكَ إلينا مُرشِدًا، إذ لَيسَ بمَقدورِ أحَدٍ القيامُ بتِلكَ المُعجِزاتِ الّتي تَقومُ بها إن لم يَكُن مؤيَّدًا مِن عِندِ اللهِ”. فأجابَهُ قائلاً: “الحقَّ الحقَّ أقولُ لكَ، إن لم يُعَد خَلقُ الإنسانِ مِن جَديدٍ، فلن يَكونَ بمَقدورِهِ رؤيةُ المَملكةِ الرَّبّانيّة”.(٨) فقالَ نِقوديموسُ بدَهشةٍ: “وكَيفَ يولِدُ الإنسانُ مِن جَديدٍ بَعدَ أن بَلغَ مِنَ العُمرِ عِتيًّا؟ أيَكونُ بمَقدورِهِ العَودةُ إلى بَطنِ أُمِّهِ ليُخلَقَ ثانيةً؟” فرَدَّ عليهِ عِيسَى (سلامُهُ علينا) بقَولِهِ: “أقولُ لكَ الحقَّ اليَقينَ، إن لم يُخلَقِ الإنسانُ مِنَ الماءِ ومِن رُوحِ اللهِ، فلن يَكون باستِطاعتِهِ الدُّخولُ إلى مَملكتِهِ الّتي وُعِدَ بها.(٩) فالإنسانُ يَملِكُ طَبيعتَهُ البَشَريّةَ بالوِلادةِ مِن أُمٍّ وأبٍ، ولكن لا يَكونُ باستِطاعتِهِ تَجديدُ رُوحِهِ إلاّ بنَفحةٍ مِن رُوحِ اللهِ. ولا تَستَغرِبُنَّ قولي هذا، فعلى أرواحِكُم أن تَتَجَدّدَ، فكَما أنّكَ عِندَ سَماعِكَ صَوتَ الرِّياحِ لا تَدرِي مِن أيِّ جِهة تَهُبُّ ولا إلى أيّ جِهة تَذهَبُ، كذلِكَ لَيسَ باستَطاعتِكَ تَفسيرُ كَيفَ خُلقَ مِن جَديدٍ هؤلاء الّذينَ سَرَتْ داخلهُم نَفَحاتٌ مِن رُوحِ اللهِ”. فقالَ نِقوديموسُ: “فكَيفَ يُمكِنُ لهذِهِ الأُمورِ أن تَحدُثَ للإنسانِ؟” فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “أنتَ مِن بَينِ مُرشِدي بَني يَعقوبَ، فكَيفَ تَجهَلُ هذِهِ الأُمورَ؟ إنّها لكَلِمةُ حقٍّ أقولُها لكَ: إنّنا نَتَكَلِّمُ بما عَلِمنا، ونَشهَدُ بما رأينا، ولكنّكُم تَرفُضونَ مِنّا البَلاغَ المُبينَ. فإن كُنتُ قد حَدَّثتُكُم في أُمورِ الدُّنيا ولم تُعيروا كَلامي اهتمامًا، فكَيفَ تُصدِّقونَني إذا ما حَدَّثتُكُم في أُمور السّماء؟! فما صَعِدَ أحَدٌ إلى السَّماءِ فيُخبِرَ عنها، ولكنّ سَيِّدَ البَشَر أتى مِن السَّماءِ، وهو الّذي يَستَطيعُ أن يُحَدِّثَكُم عنها. فكَما رَفَعَ النّبيُّ موسى الحيّةَ في الصَّحراءِ على خَشَبةٍ،(١) كذلِكَ لا بُدَّ أن يُرفَعَ سَيِّدُ البَشَرِ على خَشَبةٍ، حتّى يَنالَ كُلُّ مَن يؤمِنُ بِهِ نَصيبَهُ في جَنّة الخُلدِ. لقد أحَبَّ اللهُ كُلَّ البَشَر حتّى إنّهُ ضَحّى بالابنِ الرُّوحيِّ الفَريدِ لهُ تَعالى فِداءً لهُم، فلا خَوفَ على المؤمنينَ بِهِ مِن الهَلاكِ، لأنّ مَصيرَهُم دارُ الخُلدِ. ولم يُرسِل اللهُ الابنَ الرُّوحيَّ لهُ تَعالى إلى النّاسِ إلاّ مُنقِذًا ولم يُرسِلهُ رَقيبًا مُعاقِبًا، فمَن يؤمِنُ بِهِ لهُ النّجاةُ مِن عِقابِ اللهِ، أمّا مَن يَجحَدُ بِهِ فقد قَضى أمرُ الله بعِقابِهِ، لأنّهُ رَفَضَ الابنَ الرُّوحيَّ الفَريدَ لهُ تَعالى. وهذا هو حُكمُ اللهِ: أشرَقَ نورُ اللهِ على الدُّنيا، إلاّ أنّ أهلَ الدُّنيا مَيّالونَ إلى الشَّيطانِ بأعمالِهِم، ومُعرِضونَ عن نورِ اللهِ. إنّهُم يَكرَهُونَ النُّورَ ويَكرَهونَ الخُروجَ مِن الظَّلامِ إليهِ، وذلِكَ لأنّ أعمالَهُم آثمةٌ وهُم يَخشَونَ أن يَكشِفَها النّورُ فيَحُلَّ عليهِم غَضَبٌ مِن اللهِ. وأمّا مَن يَسلُكُ سُبُلَ الحقِّ، فإنّهُ يَنجذِبُ إلى النّورِ تِلقائيًا، ويَعلَمُ الجَميعُ أنّهُ إنّما يَعيشُ بطاعةِ اللهِ”.

السّيّد المسيح والمرأة السّامريّة

وسَمِعَت طائفةُ المُتَشَدِّدينَ بأنّ سَيِّدَنا عيسى (سلامُهُ علينا) يَجذِبُ إليهِ عَدَدًا أكبَرَ مِن أتباعِ يَحيى ويُطَهِّرُهُم بالماءِ، رَغمَ أنّ أصحابَ عيسى (سلامُهُ علينا) هُم مَن كانوا يَقومونَ بالتَّطهيرِ نِيابةً عَنهُ. فعَلِمَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) بأنّ المُتَشَدِّدينَ اكتَشِفوا ذلِكَ، وغادَرَ مِنطَقةَ يَهوذا صُحبَةَ أتباعِهِ راجِعًا إلى الجَليلِ، مارًّا في طَريقِ عَودتِهِ بمِنطَقةِ السّامِرةَ، إلى أن تَوَقَّفَ في بَلدةٍ سامِريّةٍ تُدعَى سُوكَار. وتَقَعُ هذِهِ البَلدةُ بالقُربِ مِن قِطعةِ الأرضِ الّتي فيها بِئرِ النَّبيِّ يَعقوبَ (عليه السّلام)، والّتي وَهَبَها لابنِهِ يوسفَ (عليه السّلام). وإذ كانَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) قد أنهَكَهُ السَّفرُ، جَلَسَ وَحدَهُ عِندَ تِلكَ البِئرِ بَعدَ أن ذَهَبَ أتباعُهُ لابتياعِ الطّعامِ، وكانَ الوقتُ مُنتَصَفَ النّهارِ. حِينئذٍ وَرَدَتْ على البِئرِ امرأةٌ سامِريّةٌ مِن أجلِ الماءِ، فطَلَبَ مِنها سِقايتَهُ، فأخَذَتِ المَرأةَ الدَّهشةُ لأنّ مِن شأنِ اليَهودِ أن يَتَحاشَوا أدواتِ طَعامِ السّامريّينَ وشَرابِهِم، ولذلِكَ أجابَتْهُ: “كَيفَ تَطلُبُ مِنّي ذلِكَ وأنتَ اليَهوديُّ وأنا السّامريةُ؟!” فأجابَها: “لو أنّكِ عَلِمتِ بما مَنَّ بِهِ اللهُ عليكِ، وعَرِفتِ الّذي يَطلُبُ مِنكِ شُربةَ الماءِ، لطَلَبتِ مِنهُ أنتِ فأعطاكِ ماءً طَهورًا يَبعَثُ فيكِ الخُلدَ”. فقالَت لهُ المَرأةُ: “ولكنّكَ يا سَيّدي لا تَملِكُ دَلوًا والبِئرُ عَميقةٌ فأنّى لكَ أن تأتيَني بذاكَ الماءِ؟ لقد وَهَبَ لنا جِدُّنا النَّبيُّ يَعقوبُ هذِهِ البِئرَ، وقد شَرِبَ مِنها هو وأولادُهُ وغَنَمُهُ، فهل تَزعُمُ أنّكَ أعظَمُ مِنهُ وأقدرُ؟ كَيفَ لكَ أن تَعطيَنا ماءً أجودَ مِن الماءِ الّذي وَهَبَهُ لنا؟” فأجابَها سَيّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا): “كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن ماءِ هذِهِ البِئرِ يَعطَشُ ثانيةً، وأمّا مَن يَشرَبُ مِن الماءِ الّذي أمنَحُهُ، فلا يَعطَشُ أبدًا، بل يَظَلُّ هذا الماءُ مُتَدفِّقًا في داخلِهِ يَبعَثُ فيهِ الخُلودَ”. فقالَت لهُ المَرأةُ: “فأَعطِني يا سَيّدي مِن هذا الماءِ، فلا أعطَشَ أبدًا ولا أحتاجَ لوُرُودِ هذِهِ البِئرِ ثانيةً”. فأجابَها (سلامُهُ علينا): “اذهبي وعودي رِفقةَ زَوجِكَ”. فقالَت: “لَيسَ لي زَوجٌ”. فقالَ لها: “أنتِ مُحقّةٌ، لَيسَ لكِ زَوجٌ الآن، وقد كُنتِ على عِصمةِ خَمسةِ أزواجٍ على التّوالي، والّذي تَعيشينَ مَعَهُ الآن لَيسَ زوجَكِ، وقد صَدَقتِني القَولَ في ذلِكَ”. فأجابَتهُ المَرأةُ: “يا سَيِّدي، إنّكَ نَبيٌّ بلا شَكٍّ! لقد عَبَدَ آباؤنا الأوَّلونَ اللهَ هُنا في هذا الجَبَلِ، جَبَل جِرزيم، أمّا أنتُم مَعشرَ اليَهود فعلامَ تدَّعُونَ أنّ المَكانَ الوحيدَ الّذي تُقبَلُ فيهِ العِبادةُ هو القُدس؟” فقالَ لها (سلامُهُ علينا): “تَيَقَّني يا سَيّدَتي مِمّا سأقولُ لكِ، سيأتي وَقتٌ لا فَرقَ فيهِ بَينَ أن تَكونَ عِبادةُ اللهِ الأبِ الصَّمَدِ في القُدسِ أو على هذا الجَبَلِ أو في أيِّ مَكانٍ آخَرَ! وقد حانَ هذا الوَقتُ الّذي سيَعبُدُ فيهِ النّاسُ اللهَ ويُمجِّدونَهُ في كُلِّ مَكان، وهؤلاء هُمُ الَّذينَ اصطَفاهُمُ اللهُ الأبُ الرَّحمنُ مِن بَينِ عِبادِهِ، وهُمُ الّذينَ يَتَقَرَّبونَ إليهِ تَعالى مُنقادينَ بروحِهِ وحقِّهِ. ألاَ إنّ اللهَ يَسَعُ السَّماواتِ والأرضَ وعِبادتُهُ الحقُّ لا تَقتَصِرُ على مَكانٍ. أنتُم أهلَ السّامرة لا تَعرِفونَ اللهَ الّذي تَعبُدونَهُ حقَّ مَعرفتِهِ، أمّا نَحنُ بَني يَعقوبَ فنَعرِفُهُ، ومِنّا يَخرُجُ المُنقِذُ المُنتَظَرُ”. وهُنا قالَت المَرأةُ: “أعلَمُ أنّ المَسيحَ آتٍ، وهو مَن سيُبَيِّنُ لنا كُلَّ شيءٍ”. فأجابَها: “ألا إنّي أنا المَسيحُ هذا الّذي يُكَلِّمُكِ”. ووَصَلَ الحَواريّونَ فتَعَجَّبوا مِن حَديثِهِ مَعَ امرأةٍ غَريبةٍ. ورَغمَ ذلِكَ، لم يَسألهُ أحَدٌ عن ذلِكَ. وهُنا قامَت المَرأةُ تاركةً جَرّةَ الماءِ، مُنطلِقةً إلى بَلدتِها تُحَدِّثُ النّاسَ قائلةً: “هَلُمّوا إليّ لتَرَوا رَجُلاً حَدَّثَني بكُلِّ ما جَرى لي مِن أُمور! أتُراهُ المَسيحُ المُنتَظَر؟!” وانطلقَ كُلُّ مَن سَمِعَ قولَها، متَوَجِّهًا إلى عيسى (سلامُهُ علينا). وأثناءَ ذلِكَ، كانَ الحَواريّونَ يُلِحُّونَ على سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) أن يَتَناوَلَ طَعامًا، ولكنّهُ أجابَهُم: “إنّ لي طَعامًا خاصًّا أقتاتُهُ لا تَعلَمونَهُ”. فأخَذَ الحَواريُّونَ يَتَساءلونَ: “هل جاءَهُ أحَدٌ بطَعامٍ؟” فتابَعَ (سلامُهُ علينا) يَقولُ: “إنّما طَعامي أن أعمَلَ ما يُرضي اللهَ وأُتمِّمَ ما أرسَلَني مِن أجلِهِ. ألا تَتَداوَلونَ فيما بَينَكُم المَثَلَ القائل: “بَعدَ أربَعة أشهُرٍ يَحينُ الحَصادُ”؟ ولكنّني أقولُ لكُم: قد آنَ وَقتُ الحَصادِ! فافتَحُوا أعيُنَكُم وأبصِروا. هؤلاء السّامريُّونَ المُقبلونَ علينا، مُتَهيِّئونَ للإيمانِ بي في يَومٍ واحدٍ!(٣) فكما يَجمَعُ الحَصّادُ مَحصولَهُ، كذا أنتُم تَجمَعونَ النّاسَ وتُرشِدونَهُم بتَعاليمي الّتي تؤدِّي بِهِم إلى جِنانِ الخُلد. والعامِلُ يَحصُلُ على أجرِهِ مُقابِلَ عَمَلِهِ في الحَصادِ، وكذلِكَ أنتُم، سيَمنَحُكُم اللهُ أجرًا مُقابِلَ جَهدِكُم في نَشْرِ هذِهِ الدَّعوةِ. يومئذٍ يَفرَحُ الزَّارعُ والحَصّادُ معًا. ويَصدُقُ المَثَلُ القائلُ: “النّاسُ صِنْفانِ زارِعٌ وحَصّادٌ”. وها أنا أُرسِلُكُم لحَصادِ ما لم تَتعَبوا في زَرعِهِ، بل تَعِبَ فيهِ غَيرُكُم، فأنتُم المُنتَفِعونَ بثِمارِ جَهدِهِم”. وأقبَلَ على سَيّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا)، مِن تِلكَ البَلدةِ، عَدَدٌ كَبيرٌ مِن السّامريّينَ وآمَنوا بِهِ بَعدَ أن سَمِعوا ما أَخبَرَت بِهِ تِلكَ المَرأةُ عَنهُ عِندَما كَشَفَ لها ما أخفَتْهُ عن النّاسِ. ودَعَوهُ أن يُقيمَ عِندَهُم، فاستَجابَ لطَلَبِهِم وأقامَ بَينَهم يومَيْنِ، يَشرَحُ لهُم رِسالتَهُ، فازدادَ عَدَدُ المؤمنينَ بِهِ. فقالوا للمَرأةِ: “لم نؤمن بِهِ لأنّكِ أخبَرتِ عَنهُ فحَسب، ولكنّنا آمنَّا بِهِ لأنَّنا سَمِعناهُ. وعَرَفنا أنَّهُ ولا رَيبَ مُنقِذُ البَشَرِ أجمَعينَ”.

السّيّد المسيح والقعيد

ومَضى سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) يُبَلِّغُ تَعاليمَهُ في بَيتٍ مِن البُيوتِ، بحُضورِ جَماعةٍ مِن المُتَشَدِّدينَ(٥) ومِن عُلَماءِ التَّوراةِ الّذينَ قَدِموا مِن كُلِّ قُرى الجَليلِ ومِن مِنطقةِ يَهوذا والقُدسِ الشَّريفِ، يَنظُرونَ في هذا الّذي لَدَيهِ قوةٌ مِن اللهِ لشِفاءِ المَرضى. في تِلكَ الأثناءِ قَدِمَ إليهِ نَفَرٌ يَحمِلونَ فِراشًا، عليهِ مَريضُهُم القَعيدُ، فحاوَلوا الاقتِرابَ مِن عيسى (سلامُهُ علينا) والدُّخولَ إلى البَيتِ الّذي هو فيهِ، فتَعَذَّرَ عليهِم ذلِكَ بسَبَبِ الحُشودِ الغَفيرةِ المُجتَمِعةِ هُناكَ، فما كانَ مِنهُم إلاّ أن صَعِدوا إلى سَطحِ البَيتِ فأحدَثوا فيهِ ثُغرةً ودَلّوا مِن خِلالِها مَريضَهُم على فِراشِهِ ليُصبِحَ أمامَ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا). فعِندَما رأى (سلامُهُ علينا) قوّةَ إيمانِهِم بِهِ، خاطَبَ القَعيدَ قائلاً: “أيُّها الرَّجُلُ، مَغفورةٌ لكَ ذُنوبُكَ وخَطاياكَ!” وأثارَ ذلِكَ استِنكارَ عُلَماءِ التَّوراةِ والمُتَشَدِّدينَ الحاضِرينَ، فأخَذوا يُسِرّونَ في أنفُسِهِم قائلينَ: “ها هوذا يَنطِقُ كُفرًا، فمَن غَيرُ اللهِ يَغفِرُ الذُّنوبَ والخَطايا؟” وعَلِمَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) سَرائرَهُم، فقالَ لهُم: “تُسِرّونَ في أنفُسِكُم ما لا تُعلِنونَ؟ أنتُم تَظُنّونَ أنّهُ مِن المُستَحيلِ عليَّ مَغِفرةُ الذُّنوبِ، كما تَظُنّونَ أنّ شِفاءَ المُقعَدِ مُستَحيلٌ. ها أني سأُقَدِّمُ لكُم بُرهانًا يَجعَلُكُم تُوقِنونَ بأنّ سَيِّدَ البَشَر(٦) هو الّذي وَكَّلَهُ اللهُ على الأرضِ ليَغفِرَ الذُّنوبَ”. فما كانَ مِنهُ إلاّ أن تَوَجَّهَ إلى القَعيدِ بقَولِهِ: “أيُّها الرَّجُلُ، قُم واحمِل فِراشَكَ وامضِ إلى بَيتِكَ ماشيًا على قَدَمَيكَ”. فقامَ القَعيدُ بسُرعةٍ مِن بَينَ الجُموعِ، كَما أمَرَهُ (سلامُهُ علينا)، حامِلاً فِراشَهُ ماضيًا على قَدَمَيهِ إلى بَيتِهِ ولِسانُهُ يَلهَجُ بالتَّسبيحِ للهِ وبحَمدِهِ، مِمّا أثارَ ذُهولَ الحاضِرينَ الّذينَ امتَلأت نُفوسُهُم بالخُشوعِ للهِ فقالوا مُتَمتِمينَ: “إنّ ما رأيناهُ بأعيُنِنا اليومَ عَجيبٌ!!”

السّيّد المسيح والعاصفة

وعِندَ المَساءِ، طَلَبَ سَيِّدُنا عِيسَى مِن حَواريِّيهِ العُبورَ إلى الضِّفةِ الأُخرى مِن بُحَيرةِ طَبَريّا، وجَلَسَ هُناكَ في القارِبِ بَعدَ أن تَرَكَ الحُشودَ على الشّاطِئِ، وسارَ بِهِ القارِبُ وتَبِعَتْهُ قَوارِبُ أُخرى. وفَجأةً هَبَّت عاصِفةٌ شَديدةٌ وأخَذَتِ الأمواجُ تَضرِبُ القارِبَ حَتّى كادَ يَمتَلئُ ماءً. إلاّ أنّ عِيسَى (سلامُهُ علينا) استَمَرَّ في نَومِهِ ورَأسُهُ على وِسادةٍ حَتّى أيقَظَهُ حَوارِيّوهُ بفَزَعٍ قائِلينَ: “يا فَضيلَةَ المُعَلِّمِ، أما يَهُمُّكَ أنّنا نَكادُ نَهلِكُ؟!” فما كانَ مِنهُ إلاّ أن نَهَضَ، وأَمَرَ الرِّياحَ والأمواجَ قائِلاً: “اِهدَئي أيَّتُها الرِّياحُ واُسكُني أيَّتُها الأمواجُ!” فَكَفَّت الرِّياحُ وسَكنَتِ الأمواجُ وهَدأتِ العاصِفةُ وسادَ الجَوَّ سُكونٌ عَميقٌ. ثُمّ تَوَجَّهَ إلى أتباعِهِ قائِلاً: “ما لكُم خَائفونَ؟ ألَم تُؤمِنوا بي بَعدُ؟” ولكِنّهُم كانوا ذاهِلينَ، وأسَرَّ بَعضُهُم إلى بَعضٍ قائِلينَ: “ما سِرُّ هذا الإنسانِ الّذي يَأمُرُ الرِّياحَ فتُطِيعُهُ، ومِياهَ البُحَيرةِ فَتُجيبُهُ؟!”

السّيّد المسيح وطرد الجنّ من رجل ممسوس

ولمّا وَصَلَ سَيِّدُنا عِيسى وأتباعُهُ إلى الشّاطئِ المُقابِلِ لِبُحيرةِ طَبَريّا، نَزَلوا في مِنطقةٍ يَسكُنُها الوَثنيّونَ تُسمّى الجِراسيّينَ. وعِندَ نُزولِهِ (سلامُهُ علينا) مِنَ القارِبِ فَجأةً دَنا مِنهُ رَجُلٌ خارجٌ مِن مِنطقةِ المَقابِرِ، غَريبُ الأطوارِ تَسكُنُهُ الجانّ، خَطيرةٌ أعمالُهُ، يُقيِّدُهُ النّاسُ، فيَكسِرُ أعتى القُيودِ والسَّلاسِلِ، ولا أحَدَ يَقوى على لَجمِهِ، كانَتِ القُبورُ لهُ مَسكنًا يَتردَّدُ بَينَها وبَينَ الجِبالِ ليلَ نَهارَ، ويَهيمُ صائِحًا مُدَوِّيًا، مُجَرِّحًا جَسدَهُ بالحِجارةِ. فلمّا شاهَدَ سَيِّدَنا عِيسى (سلامُهُ علينا) عَن بُعدٍ، أسرَعَ إليهِ، غَيرَ أنّ السّيِّدَ المَسيحَ تَوَجَّهَ إليهِ وخاطَبَ الجِنَّ الّذي يَسكُنُهُ قائلاً: “اُترُكْ أَيُّها الجِنيُّ جَسَدَ هذا الرَّجُلِ!” فما كانَ مِنَ الجِنيِّ السّاكِنِ الرَّجُلَ إلاّ أنِ انحَنى بَينَ يَدَيهِ صائِحًا بأعلى صَوتِهِ، على لِسانِ الرَّجُلِ، قائلاً: “يا عِيسَى، أيُّها الابنُ الرُّوحيُّ للهِ العَليّ، دَعني وشأني! أستَحلفُكَ باللهِ ألاّ تُعَذّبَني!” فسألَهُ سَيِّدُنا عِيسَى: “ما اسمُكَ؟” فأجابَ: “اسمي كَتيبةٌ، لأنّنا كَثيرونَ. فأرادَ سَيِّدُنا عِيسَى أَن يأمُرَهُ والباقينَ بِمُغادَرةِ الرَّجُلِ. إلاّ أنّ الجِنَّ تَوسَّلوا إليهِ أن يَترُكَهُم في تِلكَ المِنطقةِ وألاّ يَطرُدَهُم مِنها، مُفَضِّلينَ الحُلولَ في الخَنازيرِ الّتي تَرعى على مُنحدَرِ الجَبَلِ هُناكَ، فأذِنَ سَيّدُنا عِيسَى لهُم بذلِكَ. وهكذا حَلَّتِ الجِنُّ في الخَنازيرِ الّتي ناهَزَتْ الألفَينِ عَدَدًا. بَيدَ أنّ تِلكَ الخَنازيرَ تَدافَعَت تَدافُعًا أسقَطَها مِن أعلى المُنحَدَرِ إلى وَسَطِ البُحَيرةِ حَيثُ غَرِقَتْ. وشَهَدَ الرُّعاةُ الّذينَ كانوا هُناكَ الحادِثةَ، فنَشَروا الخَبَرَ بَينَ النّاسِ في القَريةِ والأريافِ المُجاوِرةِ فأقبَلَ النّاسُ مِن أنحاءِ تِلكَ المِنطقةِ ليَرَوا بأعيُنِهِم ما جَرى ويتحَقَّقوا مِنَ الحادِثِ، فرأوا الرَّجُلَ الّذي كانَتِ الجِنُّ تَسكُنُهُ، جالِسًا بِهُدوءٍ مُعافىً لابِسًا ثِيابَهُ سَليمَ العَقلِ. فاستَبَدَّ بهِمُ الخَوفُ، بَعدَ أن عَرَفوا مِن شُهودِ عيانٍ ما قامَ بِهِ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا) بِخُصوصِ الرَّجُلِ والخَنازيرِ. فأخَذَ الجُمهورُ يَتوَسَّلُ إليهِ لِيَرحَلَ عَن ديارِهِم، فاستَجابَ لهُم،(٩) وبَينَما هو في قاربِهِ لَحِقَ بِهِ الرَّجُلُ الّذي كانَت تَسكُنُهُ الجانُّ وطَلَبَ مِنهُ الرَّحيلَ مَعَهُ، ولكنّ سَيِّدَنا عِيسى أمَرَهُ بالبَقاءِ قائلاً: “اِذهَبْ إلى بَيتِكَ وأهلِكَ وابقَ مَعَهُم، وأخبِرْهُم بكُلِّ ما عَمِلَهُ اللهُ لكَ وبرَحمتِهِ عليكَ”. فانطَلَقَ الرَّجلُ، يَطوفُ بَينَ أنحاءِ المُدُنِ العَشَرِ(١) مُعلِنًا ما صَنَعَهُ لَهُ سَيِّدُنا عِيسَى (سلامُهُ علينا)، فكانَ ذلِكَ مَثارَ تَعَجُّبِ النّاسِ ودَهشَتِهِم.

السّيّد المسيح يُحيي ميتا

وكانَ في قَريةِ بَيتِ عَنْيا رَجُلٌ مَريضٌ هو لَعازَرُ شَقيقُ مَرْثا ومَريمَ، وهي المَرأةُ الّتي ستَسكُبُ فيما بَعدُ العِطرَ على قَدَمَي عيسى (سلامُهُ علينا) وتَمسحُهُما بشَعرِها. فأرسَلَت الشَّقيقتانِ إلى سَيِّدِنا عيسى تَقولانِ: “يا سَيِّدَنا، إنّ مَن تُحِبُّ مَريضٌ”. ولمّا بَلَغَهُ (سلامُهُ علينا) استِنجادُهُما قالَ: “لن يُؤدِّي مَرَضُ لَعازَر إلى مَوتِهِ فحَسبُ، وإنّما سيَكونُ لرَفعِ ذِكرِ اللهِ أيضًا، إذ بِهِ يُرفَعُ ذِكرُ الابنِ الرُّوحيِّ للهِ”. ورَغمَ أنّهُ (سلامُهُ علينا) كانَ يُحِبُّ أفرادَ هذِهِ العائلةِ فإنّهُ لم يَهرع إليها عِندَ سَماعِهِ بمَرَضِ لَعازَر بل مَكَثَ يَومَيْنِ قَبلَ أن يَقولَ لأتباعِهِ: “آنَ أوانُ العَودةِ إلى يَهوذا”. فاعتَرَضَ أتباعُهُ على ذلِكَ قائلينَ: “أيا سَيِّدَنا، كَيفَ تَرجِعُ إلى يَهوذا، وقد حاوَلَ قادتُها رَجمَكَ؟!” فقالَ لهُم (سلامُهُ علينا): “ومِثلَما جَعَلَ اللهُ للنّهارِ اثنتَي عَشَرةَ ساعةً، وكُلُّ مَن يَسيرُ فيها لا يَعثَرُ لأنّهُ يَمشي في ضَوئِهِ، كذلِكَ حَدَّدَ لي وَقتًا لأقومَ فيهِ بأعمالي. ومَن لا يَسيرُ في نورِ اللهِ فسيَعثُرُ كأنّهُ تائهٌ في عَتمَةِ اللّيلِ”. ثُمّ أخبَرَهُم: “نامَ لَعازَرُ حَبيبُنا، وأنا ذاهِبٌ إليهِ لأوقِظَهُ”. فأجابَهُ أتباعُهُ: “يا سَيِّدَنا، إن كانَ قد نامَ، فعَمّا قَريبٍ سيَتِمُّ لهُ الشِّفاءُ”. ولقد أشارَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) بالنَّومِ إلى المَوتِ، ولكنّ أتباعَهُ لم يَفطِنوا إلى إشارتِهِ. فقالَ مُوَضِّحًا مَقصَدَهُ: “لقد ماتَ لَعازَرُ، وإنّي لمَسرُورٌ إذ لم أكُن هُناكَ، لأنَّ هذا سيَمنَحُكُم فُرصةً أُخرَى حتّى يَرسُخَ إيمانُكم بي. فلنَذهَبْ إليهِ”. فقالَ توما الّذي لُقِّبَ بالتوأمِ لباقي زُملائِهِ: “لنُرافِقْهُ، حتّى إذا قتَلَهُ أهلُ يَهوذا، نَموتُ نحنُ أيضًا مَعَهُ”.(٣) وعِندَ وُصُولِهِ (سلامُهُ علينا)، عَلِمَ أنّ لَعازَرَ قد دُفِنَ مُنذُ أربَعةِ أيّامٍ. وكانَت قَريةُ بَيتِ عَنيا تَبعُدُ تَقريبًا مَسافةَ ميلَينِ عَن القُدس، وقد وَجَدَ (سلامُهُ علينا) عَدَدًا كَبيرًا مِنَ النّاسِ جاؤوا لتَقديمِ التَّعازي للشَّقيقَتَينِ عن أخيهِما لَعازَرَ، وعِندَما عَلِمَت مَرثا بقُدُومِهِ (سلامُهُ علينا)، أسرَعَتْ للِقائِهِ، في حينِ مَكَثَت مَريمُ في الدّارِ. وقالَت مَرثا لسَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا): “سَيِّدي، لو كُنتَ مَعَنا لَظَلَّ أخي على قَيدِ الحياةِ، ولكنّني رَغمَ موتِهِ، على ثِقةٍ، بأنّ اللهَ يُعطيكَ كُلَّ ما تَطلُبُهُ!” فأجابَها مؤكّدًا: “سيَقومُ أخوكِ حَيًّا”. فقالَت لهُ مَرثا: “نعم، يا مَولاي، عِندَما يُبعَثُ كُلُّ المَوتى في اليومِ الآخِرِ!” فقالَ لها: “أنا القِيامةُ والحَياةُ، مَن آمَنَ بي ولو ماتَ فستَكونُ لهُ حَياةُ الخُلودِ، وكُلُّ مَن يَحيا مؤمنًا بي سيَعيشُ خالدًا عِندَ رَبِّهِ. فهل تُؤمنينَ؟!” فقالَت لهُ: “أجل يا مَولاي، ما زِلتُ على عَهدي مُؤمِنَةً بأنّكَ أنتَ المَسيحُ الابنُ الرُّوحيُّ للهِ، الّذي كُنّا نَنتَظِرُ مَجِيئَهُ إلى هذا العالَمِ”. ثُمَّ ذَهَبَت مَرثا إلى أختِها وهَمَسَت إليها: “المُعَلِّمُ هُنا ويُريدُ لقاءَكِ”. فقامَت مَريمُ وتَوَجَّهَت إليهِ على عَجَلٍ. ولكنّهُ (سلامُهُ علينا) لم يَكُن قد وَصَلَ إلى القَريةِ بَعدُ، إذ كانَ لا يَزالُ حَيثُ قابلَتْهُ مَرثا. وعِندَما رأى النّاسُ الّذينَ جاؤوا للعَزاءِ عَجَلَةَ مَريمَ، ظَنُّوا أنّها تَوَجَّهَت إلى قَبرِ أخيها لتَبكيَ هُناكَ. فخَرَجوا وَراءَها، وعِندَ وُصولِهِم جَميعًا إلى حَيثُ كانَ عيسى (سلامُهُ علينا)، رَمَت مَريمُ بنَفسِها عِندَ قدمَيهِ، باكيةً قائلةً: “يا مَولاي، لو كُنتَ مَعَنا لَما ماتَ أخي”. ولمّا رأى سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) بُكاءَها ونَشيجَ مَن مَعَها، جاشَت عَواطِفُهُ وقالَ: “أينَ دَفَنتمُوهُ؟!” فقالوا لهُ: “تَعال يا سَيِّدَنا، وانظُر إليهِ”. فبَكى (سلامُهُ علينا) مِن شِدَّة تأثُّرِهِ، وقالَ مَن كانَ حَولَهُ: “انظرُوا إليهِ كَم كانَ يُحِبُّ لَعازَرَ!” وقالَ آخَرونَ: “لقد أعطَى الكَفيفَ بَصرًا، أفما كانَ يَقدِرُ أن يَرُدَّ الموتَ عن لَعازَرَ؟!” وجاشَت عَواطِفُهُ مُتأثِّرًا مَرَّةً ثانيةً. بَعدَ ذلِكَ وَصَلَ إلى القَبرِ الّذي لم يَكُن سِوى مَغارةٍ يَسُدُّ مَدخلَها حَجَرٌ. والتَفَتَ (سلامُهُ علينا) إلى مَن حَولَهُ قائلاً: “أزيحوا الحَجَرَ!” فقالَت مَرثا: “يا مَولاي، لقد طَغَت رائحةُ جُثمانِهِ على الهَواءِ إذ قد مَضَت أربَعةُ أيّامٍ على وفاتِهِ!” فأجابَها (سلامُهُ علينا): “ألم أُخبِركِ أنّكِ إن آمَنتِ بي فستَشهَدينَ تَجليّاتِ اللهِ؟!” وأزاحُوا الحَجَرَ، ورَفَعَ (سلامُهُ علينا) بَصَرَهُ إلى السَّماءِ مُخاطِبًا رَبَّهُ: “لكَ الحَمدُ يا اللهُ، أيُّها الأبُ الرَّحيمُ على فَضلِ جَوابِكَ لي. وإنّي على يَقينٍ أنّكَ تَستجيبُ لي دائمًا وما أقولُ ذلِكَ على المَلأ المُجتَمعِ حَولي إلاّ ليُوقِنوا أنّكَ أنتَ الّذي أرسَلتَني”. ثُمّ صاحَ بأعلى صَوتِهِ: “اُخرُج يا لَعازَرُ!” فخَرَجَ لَعازَرُ وقد قُيِّدَ بالأكفانِ وعُصِبَ وَجهُهُ بمِنديلٍ. فقالَ لهُم سَيِّدُنا عيسى: “فُكّوا عَنهُ قُيودَ المَوتِ ودَعُوهُ يَذهَبُ”.

السّيّد المسيح يتنبّأ بموته

وفي أوّلِ يومٍ مِن عِيدِ الفِصحِ، أي اليوم المُمَهِّدِ لِعيدِ الفَطيرِ، أقبَلَ على سَيّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) أتباعُهُ مُتَسائلينَ: “أينَ تُريدُ أن يَكونَ عَشاءُ العِيدِ فنُجَهِّزَهُ لكَ؟” فرَدَّ عليهِم بقَولِهِ: “اذهبوا إلى المَدينةِ المُقَدَّسةِ حَيثُ فُلانٌ وقولوا لهُ: “يُخبِرُكَ المُعَلِّمُ قائلاً: “إنّ وَقتي قد حانَ، وسأقومُ بالاحتِفالِ مَعَ أتباعي بعِيدِ الفِصحِ في دارِكَ”. فذَهَبَ أتباعُهُ (سلامُهُ علينا)، وقاموا بتَجهيزِ العَشاءِ حَيثُ أشارَ. وعِندَ حُلولِ المَساءِ، جَلَسَ (سلامُهُ علينا) مَعَ حَواريّيهِ الاثنَي عَشَر، وبَينَما هُم يأكُلونَ، التَفَتَ إليهِم قائلاً: “الحقَّ أقولُ لكُم، سيَغدُرُ أحَدُكم بي”. فأصابَهُم حُزنٌ شَديدٌ، وأخَذَ كُلُّ واحدٍ مِنهُم يَتَساءل: “أكيد لَستُ أنا يا سَيِّدي؟” إلاّ أنّهُ أجابَهُم: “خائني هو واحِدٌ مِنكُم، أنتُم الّذينَ غَمَستُم يَدَكُم مَعَ يدي في هذا الطَّبقِ. وسيَموتُ سَيِّدُ البَشَرِ كَما جاءَ في الكُتُبِ السَّماويّةِ، ولكنّ الوَيلَ لذاكَ الرَّجُلِ الّذي يُسَلِّمُهُ! فخَيرٌ لهُ لو لم يُولَد”. وانبَرَى يَهوذا الخائنُ قائلاً: “هل هو أنا أيُّها المُعَلِّم؟” فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “هو ما تَقولُ”. وأثناءَ تَناوُلِهِم للعَشاءِ، أخَذَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) خُبزًا وحَمِدَ اللهَ على النَّعمةِ وقَسَّمَهُ وأعطى أتباعَهُ قائلاً: “خُذوا مِنهُ، فهذا الخُبزُ بمَثابةِ جَسَدي”. ثُمّ تَناوَلَ الكأسَ وحَمِدَ اللهَ على نَعمائِهِ وناوَلَها لأتباعِهِ قائلاً: “اشرَبوا مِنها كُلُّكُم، فما في هذِهِ الكأسِ رَمزٌ إلى دَمي الّذي سيُراقُ لأجلِ غُفرانِ ذُنوبِ كُلِّ النّاسِ، تَثبيتًا لميثاقِ اللهِ الجَديدِ، وإنّي لمُنذِرُكُم أنّي لن أتَذَوَّقَ بَعدَ الآنَ عَصيرَ العِنَب، إلى ذاكَ اليومِ الّذي أشرَبُ فيهِ شَرابًا طَهورًا في المَملكةِ الرَّبّانيّةِ، مَملكةِ اللهِ الأبِ الأحَدِ الصَّمَدِ”. ثُمّ أخَذَ الجَميعُ يُرَتِّلونَ آياتٍ مِن الزَّبور. وغادَروا بَعدَ ذلِكَ مُتَوَجّهينَ إلى جَبَلِ الزَّيتونِ.

(القبض على عيسى (سلامُهُ علينا

وغادَرَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) بَعدَ ابتِهالِهِ صُحبَةَ حَواريِّيهِ ذلِكَ المَكانَ، ليَجتازوا مَعًا وادي قيدرونَ، ودَخَلوا فيهِ إلى بُستانٍ مِن شَجَرِ الزَّيتونِ. وكانَ يَهوذا الّذي سيَغدِرُ بسَيِّدِنا عيسى يَعرِفُ ذلِكَ البُستانَ لأنّ عيسى (سلامُهُ علينا) اعتادَ أن يَجتَمِعَ فيهِ بأتباعِهِ. فاصطَحَبَ يَهوذا إلى ذلِكَ المَكانِ جَماعةٌ مِن عَسكَرِ الرُّومان(٦) ومَجموعةٌ مِن حَرَسِ بَيتِ اللهِ الّذينَ أرسَلَهُم رؤساءُ الأحبارِ والمُتَشَدِّدونَ، وكانَ بِحَوزَةِ المَوكِبِ مَصابيحُ ومَشاعلُ وسِلاحٌ. وكانَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) يَعلَمُ بما سيَحُلُّ بِهِ، فخَرَجَ إليهِم قائلاً: “مَن هذا الّذي جِئتُم في طَلَبِهِ؟!” فأجابوهُ قائلينَ: “إنّهُ عيسى النّاصِريّ”. فقالَ لهُم: “أجل، أنا عيسى النّاصريّ”. وكانَ يَهوذا الخائنُ واقِفًا مَعَ الجُنودِ والحَرَسِ. وعِندَما أجابَهُم (سلامُهُ علينا) بأنّهُ هو، تَراجَعوا وسَقَطوا أرضًا! فسألَهُم ثانيةً: “مَن جِئتُم وَراءَهُ؟!” فأصَرّوا على طَلَبِهِم قائلينَ: “عيسى النّاصريّ”. فقالَ لهُم: “أخبَرتُكُم أنّني أنا عيسى النّاصريّ، وأنا بَينَ أيديكُم فخَلُّوا سَبيلَ أصحابي”. وبهذا تَحَقَّقَ ما ذَكَرَهُ عِندَ ابتهالِهِ: “ما خَسِرتُ يا رَبُّ أحَدًا مِنَ الأتباعِ الَّذينَ وَهَبتَهُم لي”. وأثناءَ ذلِكَ، استَلَّ صَخرٌ سَيفًا كانَ مَعَهُ وقَطَعَ الأذُنَ اليُمنى لأحَدِ عَبيدِ كَبيرِ الأحبارِ، وكانَ اسمُه مالِك.(٧) والتَفَتَ (سلامُهُ علينا) إلى صَخر قائلاً: “أعِدْ سَيفَكَ إلى غِمدِهِ، أفلا أشرَبُ كأسَ الآلامِ الّتي قَدَّرَها لي اللهُ الأبُ الرَّحيمُ!؟” وهكذا قامَ العَسكَرُ الرُّومانُ مَعَ ضابِطِهِم، ومَجموعةُ الحُرّاسِ بالقَبضِ على عيسى (سلامُهُ علينا) فقَيَّدُوهُ وساقوهُ في البدايةِ إلى حَنّا حَمي قَيافا الّذي كانَ كَبيرَ الأحبارِ في تِلكَ الفَترةِ.(٨) وقَيافا هو الّذي نَصَحَ زُملاءَهُ مِن قادةِ اليَهودِ قائلاً: خَيرٌ أن يَموتَ رَجُلٌ واحدٌ فِداءً للأُمّةِ مِن أن تَهلِكَ الأُمَّةُ بأكملِها. ومَضى في إثرِ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) بُطرُسُ الصَّخر وحَواريٌّ آخرُ كانَت لهُ صِلةٌ بكَبيرِ الأحبارِ، فدَخَلَ الحَوارِيُّ الثّاني مَعَ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى باحةِ قَصرِ كَبيرِ الأحبارِ، وظَلَّ بُطرُسُ بِدَورِهِ واقفًا عِندَ البابِ. وتَوَسَّطَ ذاكَ الحَوارِيُّ لَدى فَتاةٍ كانَت تَحرسُ البوّابة ليَدخُلَ بُطرُسُ. فسألَتهُ: “هل أنتَ أيضًا مِن أتباعِ هذا الرَّجُلِ؟” فأنكَرَ بُطرُسُ ذلِكَ بقولِهِ: “كَلاّ، لَستُ مِن أتباعِهِ”. ولمّا كانَ البَردُ شَديدًا، أوقدَ العَبيدُ والحُرّاسُ النّارَ والتَفُّوا حَولَها يَتَدفَّؤُونَ، واقتَرَبَ مِنهُم بُطرُسُ يَتَدَفَأ. وتَوَجَّهَ كَبيرُ الأحبارِ إلى سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) يَستَجوِبُهُ عَن أتباعِهِ والتَّعاليمِ الّتي يُنادي بها، فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “إنّما بَشَّرتُ بتَعاليمي جَهرًا، على رُؤوسِ الأشهادِ في بُيوتِ العِبادَة والحَرَمِ الشَّريفِ حَيثُ يَجتَمِعُ كُلُّ اليَهودِ. فلِمَ تَسألُنِي أنا؟ اسألْ هؤلاء الّذينَ سَمِعوا ما ذَكَرتُ، إنّهُم يَعلَمونَ كُلَّ ذلِكَ”. فلَطَمَهُ أحَدُ الحُرّاسِ على خَدِّهِ قائلاً: “أهكذا تُخاطِبُ كَبيرَ الأحبارِ؟!” فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “إن كُنتُ قد أخطأتُ في جَوابي فأَثبِتْ ذلِكَ بِشُهودٍ، وإن نَطَقتُ صَوابًا، فلِمَ تَلطِمُني؟!” وأرسَلَ حَنّا عيسى (سلامُهُ علينا) مُقَيَّدًا إلى قَيافا كَبيرِ الأحبارِ.(٩) وفي ذلِكَ الحِين، كانَ بُطرُسُ يَتَدفَّأ مَعَ الحُرّاسِ، فسألوهُ: “هل أنتَ أيضًا مِن أتباعِهِ؟!” فأجابَهُم بُطرُسُ مُنكِرًا: “كَلاّ، لَستُ مِنهُم”. فالتَفَتَ إليهِ أحَدُهُم وقد كانَ عَبدًا عِندَ كَبيرِ الأحبارِ، وهو مِن أقارِبِ مَن قَطَعَ بُطرُسُ لهُ أذُنَهُ، وقالَ لهُ: “أما شاهَدتُكَ برِفقةِ عيسى في ذلِكَ البُستانِ؟!” فأنكَرَ بُطرُسُ ذلِكَ مَرّةً ثالثةً، وقد تَزامَنَ ذلِكَ الإنكارُ مَعَ صِياحِ الدِّيكِ. واُقتيدَ (سلامُهُ علينا) بَعدَ انتهاءِ مُحاكمتِهِ فَجرًا مِن عِندِ كَبيرِ الأحبارِ قَيافا إلى قَصرِ الحاكِمِ الرُّومانيّ، وامتَنَعَ اليَهودُ عَن دُخولِ القَصر حتّى لا تُصيبَهُم النَّجاسةُ فيُحرَموا مِن تَناوُلِ عَشاءِ عِيدِ الفِصحِ.(١) لذا خَرَجَ الحاكِمُ بيلاطُس إليهِم ليَسألَهُم قائلاً: “ماهي التُّهمةُ الّتي تُوجِّهونَها إلى هذا الرَّجُلِ؟” فأجابوهُ: “لو لم يَكُن مُجرِمًا لَمَا سَلَّمناكَ إيّاهُ”. إلاّ أنّ بيلاطُس قالَ لهُم: “خُذوهُ وحاكِموهُ حَسَبَ شَريعتِكُم”. فانبَرَوا قائلينَ: “كَيفَ وقد سَلَبَ الرُّومانُ مِنّا صَلاحيَّةَ الحُكمِ بالإعدامِ؟” فتَحَقّقَت بذلِكَ نبُوءةُ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا) حَولَ طَرِيقةِ مَوتِهِ.(٢) وعادَ بيلاطسُ إلى القَصرِ، واستَدعى عيسى (سلامُهُ علينا) ليَسألَهُ: “هل أنتَ مَلِكُ اليَهود؟!”(٣) فأجابَهُ: “أهذا سُؤالٌ خَطَرَ بِبالِكَ فألقَيتَهُ عليَّ، أم هو مِمّا بَلَغَكَ عنّي مِنَ الآخَرينَ؟!”(٤) إلاّ أنّ بيلاطُسَ أجابَهُ: “وهل أنا يَهوديٌّ حتّى يَهُمَّني كُلُّ ذلِكَ؟ فقد سَلَّمَكَ إليَّ شَعبُكَ ورُؤساءُ الأحبارِ! فما الّذي ارتَكبتَهُ؟!” فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “لَستُ مَلِكًا دُنيويًّا، ولو كانَ كذلِكَ لدَافعَت حاشيَتي نَفسُها عنِّي فلا يَقبِضُ اليَهودُ عليّ. ولكنّ مَملكَتي لَيسَت مِن هذا العالَمِ”. فقالَ لهُ بيلاطُسُ: “أنتَ مَلِكٌ إذَن!” فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “نَطقتَ صَوابًا، أنا مَلِكٌ، وقد وُلدتُ وبُعِثتُ إلى هذا العالَمِ لأشهَدَ للحَقَّ، فكُلُّ مَن يُحِبُّ الحَقَّ يُطِيعُ تَعاليمي”. فسألَهُ بيلاطسُ: “وما هو الحَقُّ؟” ثُمّ خَرَجَ إلى الحُشودِ وقالَ لهُم: “لَستُ أرى لهُ جَريمةً ارتَكَبَها. قد جَرَتِ العادةُ بَينَكُم على أن أُطلِقَ لكم سَجينًا واحدًا مِن سُجنائِكُم في عِيدِ الفِصح، فهل لدَيكُمُ الرَّغبةُ في إطلاقِ مَلِكِ اليَهودِ؟” فَعَلَت أصواتُهُم ورَدّوا قائلينَ: “لا تُطلِق سَراحَهُ، بل أطلِقْ سَراحَ باراباس!” وقد كانَ باراباسُ هذا مُجرِمًا مُتَمَرِّدًا على الرُّومان. وهَكَذا أمَرَ الحاكمُ بيلاطُسُ بِجَلدِ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا)، فصَنَعَ الجُنودُ تاجًا مِنَ الشَّوكِ المَجدولِ، ووَضَعوهُ على رأسِهِ وألبَسوهُ رِدَاءً مَلَكِيًّا ذا لَونٍ أُرجوانيّ،(٥) ثُمَّ حَيَّوهُ ساخِرينَ: “عاشَ مَلِكُ اليَهودِ!” وكانوا يَتَناوَبونَ عليهِ صَفعًا ولَطمًا. ثُمَّ خَرَجَ الحاكِمُ بيلاطُسُ إلى الحُشُودِ وقالَ لهُم مَرّةً أُخرَى: “اِعلَموا أنّي سأُعِيدُهُ إليكُم، وأنا لا أجِدُ سَبَبًا لإدانتِهِ”. وخَرَجَ عيسى (سلامُهُ علينا) وقد عَلا رأسَهُ تاجٌ مِنَ الشَّوكِ مُرتَديًا ثوبًا أُرجوانيَّ اللَّونِ. والتَفَتَ بيلاطُسُ إلى المُحتَشِدينَ قائلاً: “ها هوذا الرَّجُلُ”. وصَرَخَ رُؤساءُ الأحبارِ وحُرّاسُ بَيتِ اللهِ عِندَ رُؤيتِهِ: “اُصلُبْهُ، اُصلُبْهُ!” ولكنّ بيلاطسَ أجابَهُم: “خُذُوهُ أنتُم واصلُبُوهُ، فإنّي لم أجِدْ لهُ ذَنبًا لإدانَتِهِ”. فقالَ قادةُ اليَهودِ: “شَريعَتُنا تَقضي بِموتِهِ لأنّهُ ادَّعى بأنّهُ الابنُ الرُّوحيُّ للهِ”. واشتَدَّت رَهبةُ بيلاطسَ بَعدَ سَماعِ كَلامِهِم(٦) فعادَ إلى قَصرِهِ وسألَ سَيِّدَنا عيسى (سلامُهُ علينا): “مِن أينَ أنتَ؟!” إلاّ أنّ عيسى (سلامُهُ علينا) لم يُجِبْهُ. فتابَعَ بيلاطسُ كَلامَهُ قائلاً: “أتَرفُضُ الإجابةَ؟ ألا تَدري أنّي صاحِبُ السُّلطةِ، إن شِئتُ أطلَقتُ سَراحَكَ وإن شِئتُ صَلبتُكَ؟” فأجابَهُ (سلامُهُ علينا): “لم تَكُن لكَ تِلكَ السُّلطةُ عليّ لو لم يَمنَحكَ إيّاها اللهُ، ولكنّي أقولُ: إنّ إثمَ مَن سَلّمَني إليكَ أعظَمُ مِن إثمِكَ”. ولمّا سَمِعَ بيلاطُسُ كَلامَهُ حاوَلَ إطلاقَ سَراحِهِ. إلاّ أنّ قادةَ اليَهودِ احتَجُّوا صارِخينَ: “إن أطلَقتَ سَراحَهُ فهذا يَعني أنّكَ تَخونُ القَيصرَ، لأنّ كُلَّ مَن يَزعُمُ أنّهُ مَلِكٌ يَتَمَرَّدُ عليهِ”.(٧) فلمّا سَمِعَ بيلاطسُ كَلامَهُم هذا، أخرَجَ عيسى (سلامُهُ علينا)، وأوقَفَهُ أمامَ مِنصَّةِ القَضاءِ في مَكانٍ اسمُهُ البَلاطُ ويُقابلُ جَباثا بالعِبريةِ، وكانَ ذلِكَ نَحوَ ظَهيرةِ يومِ التَّهيِئَةِ ليَومِ عِيدِ الفِصْحِ، وخاطَبَ بيلاطُسُ اليَهودَ بقولِهِ: “هُوَ ذا مَلِكُكُم!” ولكنّهُم صَرَخوا قائلينَ: “اُقتُلْهُ! اِقْضِ عليهِ! اُصلُبْهُ!” فأجابَهُم بيلاطُسُ: “وهل أصلُبُ مَلِكَكُم؟” فأجابَهُ رؤساءُ الأحبارِ: “لَيسَ مِن مَلِكٍ علينا سِوى القَيصر”.(٨) ونَزَلَ بيلاطسُ في النِّهايةِ عِندَ رَغبةِ قادةِ اليَهودِ وسَلّمَ إليهِم عيسى (سلامُهُ علينا) ليُصلَبَ.

صلب السّيّد المسيح وقتله

وفيما كانَ (سلامُهُ علينا) يُساقُ للإعدامِ، صادَفَ مُرورُ رَجُلٍ آتٍ مِن الرِّيفِ إلى المَدينةِ اسمُهُ سِمعانُ مِن مَدينَةِ قورينا في ليبيا. فأمسَكَ الجُنودُ بسِمعانَ وأجبَروهُ على حَملِ الصَّليبِ والسَّيرِ خَلفَ سَيِّدِنا عيسى (سلامُهُ علينا).(١) وهكذا ساروا وخَلفَهُم حَشدٌ غَفيرٌ مِن النّاسِ، بَينَهُم نِسوةٌ بَدأنَ في البُكاءِ والنّواحِ حُزنًا عليهِ (سلامُهُ علينا)، فالتَفَتَ عيسى إليهِنّ قائلاً: “يا نِساءَ القُدسِ، لا تَبكينَ عليّ بَل على أنفُسِكُنَّ وأولادِكُنَّ، لأنّهُ سيأتي وَقتٌ يَكونُ فيهِ خَرابُ القُدسِ وحِينئذٍ سيُقال، “هَنيئًا للعاقِرِ الّتي لم تَحمِل ولم تَلِد ولم تُرضِع!” وسيَقولُ النّاسُ مِن شِدّةِ هَلَعِهِم: “فلتُدَكَّ علينا الجِبالُ، ولتُوارنا التّلالُ في أعماقِها كي نَموتَ فنَستريحَ مِن هذا العَذاب!” فإن كُنتُ أَنا، الغُصنَ الأَخضَرَ، قد حَلَّ بي مِن العَذابِ والهَوانِ ما تَرَونَ، فَما عَساهُ يَحُلَّ بِكُم، وأنتُم غُصونٌ يابِسةٌ؟”(٢) وهكذا ساقوهُ (سلامُهُ علينا) مَعَ اثنَينِ مِن المُتَمَرِّدينَ للإعدامِ. وعِندَ بُلوغِهِم تَلَّ الجُمجُمة، قاموا بصَلبِهِ بَينَ هذينِ الاثنَينِ، أَحَدُهُما عَن اليَمينِ والآخَرُ عَن اليَسارِ.(٣) فرَفَعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ بالدُّعاءِ قائلاً: “اللهُمَّ، أيُّها الأبُ الرَّحمَنُ، اغفِر لهؤلاءِ ذُنوبَهُم، لأنّهُم يَجهَلونَ ما يَفعَلونَ”. وكانَ الجُنودُ يَتنازَعونَ ثيابَهُ بَينَهُم بالقُرعةِ. وبَينَما النّاسُ وُقوفٌ شاخِصينَ بأبصارِهِم إلى هذا المَشهَدِ الرَّهيبِ، انبَرَى بَعضُ رِجالِ اليَهودِ النّافِذينَ يَقولونَ استِهزاءً: “لطالما أنقَذَ الآخَرينَ، وآن الأوانُ لِيُنقِذَ نَفسَهُ إن كانَ هو المَسيحَ المَلِكَ المُختارَ، المُرسَلَ مِن عِندَ اللهِ حقًّا!” ثُمّ أخَذَ الجُنودُ الساخِرونَ يُقَدِّمونَ إليهِ نوعًا رَديئًا(٤) مِن الخَمَر، ويَتَصايحونَ قائلينَ: “إن كُنتَ مَلِكَ اليَهودِ حقًا، فهَيَّا أنقِذْ نَفسَكَ!” ثُمّ عَلَّقوا فَوقَ رأسِهِ في أعلى الصَّليبِ لَوحًا كُتِبَ عليهِ: “هذا هو مَلِكُ اليَهودِ”.(٥) وأخَذَ أحَدُ المُتَمَرِّدَيْنِ اللذَينِ صُلبا مَعَهُ يُهينُهُ قائلاً: “هل أنتَ حقًا المَسيحُ المُنقِذُ لشَعبِنا؟ إذن قُم بإنقاذِ نَفسِكَ وإنقاذِنا إن كُنتَ مِن الصّادِقينَ!” ولكنّ المُتَمَرِّدَ الآخرَ قالَ مُعتَرِضًا: ألا تَخافُ اللهَ، حتّى وأنتَ على وَشَكِ المَوتِ؟ نَحنُ نَستَحِقُّ ما نَلقاهُ، إلاّ أنّ هذا الرَّجُلَ لَيسَ بآثمٍ!” ثُمّ التَفَتَ إلى عيسى (سلامُهُ علينا) وقالَ: “يا سَيِّدي عيسى، اذكُرني عِندَما تَجلِسُ على عَرشِكَ في مَملَكةِ اللهِ!” فأجابَهُ عيسى (سلامُهُ علينا): “الحقّ أقولُ لكَ، لَتَكونَنَّ اليومَ مَعي في فِردوسِ النّعيمِ”. وفي ظَهيرةِ ذلِكَ اليَومِ، احتَجَبَت الشَّمسُ فخَيَّمَ ظَلامٌ كَثيفٌ استَمَرَّ يَغمُرُ الأرضَ حتّى العَصرِ، ثُمّ انشَقَّ فَجأةً حِجابُ بيتِ اللهِ الصَّفيق إلى شَطرَين. فصاحَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا): “يا اللهُ، أيُّها الأبُ الرَّحيمُ، هذِهِ روحي مِنكَ إليكَ، أستَودِعُها بَينَ يَديكَ!” ولَفَظَ نَفَسَهُ الأخيرَ. وعِندَما رأى الضّابطُ الرُّومانيُّ الواقِفُ على إعدامِهِ ما جَرَى، سَبَّحَ اللهَ وقالَ: “لقد كانَ هذا الرَّجُلُ صالِحًا بَريئًا”.(٦) أمّا الجُموعُ المُحتَشِدةُ الّتي جاءَت خِصّيصًا لحُضورِ ذلِكَ المَشهَدِ، فقد عادَت إلى بُيوتِها لاطِمةً نادِبةً عِندَما رأت ما جَرى. وظَلَّ أصحابُهُ (سلامُهُ علينا) والنِّساءُ اللّواتي تَبِعنَهُ مِن الجَليلِ واقِفينَ عن بُعدٍ يُشاهِدونَ ما يَحدُثُ. وكانَ رَجُلٌ صالِحٌ مِن أعضاءِ المَجلِسِ الأعلى مِن بَلدةِ الرَّامة في مِنطقةِ يَهوذا اسمُهُ يوسفُ، يَنتَظِرُ ظُهورَ المَملَكةِ الرَّبّانيّةِ، وقد استَنكَرَ كُلَّ ما صَدَرَ عن رِجالِ المَجلِسِ مِن قَراراتٍ وأعمالٍ. فتَوَجَّهَ بَعدَ مَوتِ عيسى إلى بيلاطُسَ طالِبًا مِنهُ إعطاءَهُ جُثمانَ عيسى (سلامُهُ علينا).(٧) وهكذا أنزَلَ يُوسفُ الجُثمانَ مِن على الصَّليبِ وأخَذَهُ وكَفَنَهُ بقُماشٍ مِن كَتّانٍ وأودعَهُ قَبرًا مَحفورًا في الصَّخرِ لم يُدفَن فيهِ أحَدٌ مِن قَبلُ. وكانَ ذاكَ اليَومُ يَومَ الإعدادِ لراحةِ السَّبتِ، الواقِعِ قَبلَ مَغيبِ الشَّمسِ وبَدءِ يومِ العِيدِ المَجيدِ. وأمّا النِّسوةُ الجَليلياتُ، فأخَذنَ يُتابِعنَ يوسفَ فشاهدْنَهُ يُودِعُ الجُثمانَ في القَبرِ. وهكذا ذَهَبنَ بَعدَ ذلِكَ إلى البيتِ وجَهَّزنَ طِيبًا وحَنوطًا لِيَدهَنَّ بِهِ الجُثمانَ بَعدَ انقِضاءِ السَّبتِ. وعِندَ غُروبِ الشّمسِ امتَنَعنَ عن العَمَلِ طَوالَ ذلِكَ اليومِ تَنفيذًا لِما جاءَ في كِتابِ اللهِ.

انبعاث السّيّد المسيح حيًّا

وفيما هم يَتَكَلَّمونَ، ظَهَرَ سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) في وَسَطِهِم قائلاً: “السّلامُ عليكُم!” فاستَبَدَّ بِهِم الذُّعرُ وقد حَسَبوهُ طَيفًا. فسألَهُم: “لماذا أنتُم مُضطَرِبونَ؟ وبي تَشُكّونَ؟ اُنظُروا إلى يَدَيّ وقَدَمَيّ لتَتَحَقّقوا بأنّني عيسى! وتَحَسَّسوا جَسَدي لتتأكّدوا بأنّني مِثلَكُم لَحمًا وعَظمًا ولَستُ طَيفًا، فالطَّيفُ لا جَسَدَ لهُ!” وأراهُم (سلامُهُ علينا) يَدَيهِ وقَدَمَيهِ ليَتَحَقَّقوا. ولِفَرطِ فَرحَتِهِم بظُهورِهِ وَقَفوا حائرِينَ مُندَهِشينَ غَيرَ مُصَدِّقينَ. فقالَ لهُم: “ماذا لَدَيكُم مِن طَعامٍ؟!” فناولوهُ قِطعةً مِن السَّمك المَشويِّ، فأكَلَها وهُم يُراقِبونَهُ.(١) ثُمّ قالَ: “كُنتُ قد أنبأتُكُم عِندَما كُنتُ بَينَكُم بأن ما جاءَ عنّي في تَوراةِ موسى وكُتُبِ الأنبياءِ والزَّبورِ لا بُدَّ أن يَتَحَقَّقَ”.(٢) ثُمّ بَثَّ في أذهانِهِم نورًا شارِحًا مُفَسِّرًا ما جاءَ في الكُتُبِ السَّماويّةِ، وقالَ: “جاءَ في كِتابِ اللهِ أنّ على المَسيحِ المُنتَظَرِ أن يُقاسيَ آلامًا كَثيرةً ثُمّ يَموتَ ثُمّ يُبعَثَ حيًّا بَعدَ ثلاثةِ أيّامٍ. وستُزَفُّ إلى كُلِّ الأُممِ رِسالةُ التَّوبةِ وبَشائرُ غُفرانِ الذُّنوبِ لِكُلِّ مَن يُؤمنُ بي ويَدعو باسمي، بَدءًا مِن القُدسِ. وأنتُم الآنَ شُهودُ عِيانٍ على كُلِّ هذِهِ الأُمورِ، وسأُرسِلُ إليكُم رُوحَ اللهِ كَما وَعَدَ اللهُ أبي الصَّمَدُ، فامكُثوا في المَدينةِ المُقَدَّسةِ حتّى أوانِ حُلولِ الرُّوحِ عليكُم فتَغمُرُكُم قوّةٌ سَماويّةٌ”. ثُمّ اقتادَهُم سَيِّدُنا عيسى (سلامُهُ علينا) إلى مَكانٍ على مَقرُبةٍ مِن بَيتِ عَنْيا ورَفَعَ يدَيهِ وبارَكَهُم، وهُنا رَفَعَهُ اللهُ إلى السَّماءِ أمامَ عُيونِهِم. فخَرُّوا أمامَهُ إجلالاً وتَعظيمًا، ثُمّ عادوا إلى بيتِ المَقدِس وقد عَمَّهُم الفَرَحُ العَظيمُ. وهكذا ظَلّوا عاكِفينَ مُتَعَبِّدينَ في حَرَمِ بيتِ اللهِ مُسَبِّحينَ بحَمدِهِ بالعَشيِّ والإبكارِ.

رؤيا لنزول سيدنا عيسى

هي ذي الأسرار الّتي كشفها الله لسيّدنا عيسى المسيح حتّى يرى عباده أمورا لا بدّ من حدوثها عاجلاً، فأرسل ملاكه إلى عبده يوحَنّا الّذي أخبر بكلّ ما رآه من ربّ العالمين، رسالة وبيانا من سيّدنا عيسى المسيح (سلامُهُ علينا).

التنبيه بقدوم مولانا

انظُرُوا! ها مَولانا قادِمٌ في ظُلَلٍ مِن الغَمامِ، وسيُبِصرُهُ الجَميعُ، حَتّى الّذينَ طَعَنوهُ. وستَنوحُ عليهِ عَشائِرُ الأرضِ كُلِّها بِسَبَبِ الآلامِ الّتي تَعَرَّضَ إليها.(٥) نعم، لِيَكُنْ كَذلِكَ يا رَبُّ، آمينَ. قالَ المَولى عِزَّ وجَلَّ: “أنا الألِفُ والياءُ، الحَيُّ مُنذُ الأزلِ والآنَ وإلى الأبَدِ، وإنّي على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ”.

نزول عيسى

فُتِحتِ السَّماءُ فرأيتُ فَرَسًا أبيَضَ يَمتَطيهِ سَيِّدُنا عيسى، الصّادِقُ الأمينُ، فَهوَ الّذي لا يَجورُ في حُكمِهِ ولا يُحارِبُ إلاّ بِالعَدلِ المُبينِ. وعَيناهُ لَهيبُ نارٍ، ورأسُهُ مُكَلَّلٌ بِعَدَدٍ كَبيرٍ مِن التِّيجانِ، وكانَ يَحمِلُ اسمًا لا يَعرِفُهُ أحَدٌ سِواهُ،(٧) وكانَ يَلبَسُ ثَوبًا مُسَربَلاً بِالدّم، واسمُهُ “كَلِمةُ اللهِ”. وكانَت جُيوشُ المَلائِكةِ تَتَراكَضُ وَراءهُ على جيادٍ بَيضاءِ، وكانوا يَرتَدونَ ثيابًا نَقيّةً ناصِعةَ البَياضِ، وانبَجَسَ مِن فَمِهِ سَيفٌ صَقيلٌ، هُو دَليلٌ على سُلطانِهِ في الأرضِ، وبِهِ يَنتَصِرُ على الأُمَمِ الّتي تَمَرَّدَت على اللهِ. فَهوَ الّذي سيَحكُمُها بِعَصًا مِن حَديدٍ، ويأتي بِعِقابِ اللهِ وغَضَبِهِ على الأشرارِ، كَما يَدوسُ النّاسُ الأعنابَ في المِعصَرةِ. وقد كُتِبَ على رِدائِهِ وعلى فَخِذِهِ هذا الاسمُ: “مَلِكُ المُلوكِ وسَيِّدُ الأسيادِ”.

القضاء على الدجّال وغيره من الأشرار

ثُمّ أبصَرتُ وَحشَ البَحرِ اللَّعينِ، ومُلوكَ الأرضِ وجُيوشَهُم وقد احتَشَدوا جَميعًا لِيُحارِبُوا سَيِّدَنا عيسى صاحِبَ الفَرَسِ الأبيَضِ وجُيوشَهُ. وأمسَكَ سَيِّدُنا عيسى بِهذا الوَحشِ، وبِالمُتَنَبِّئِ الدَّجّالِ، صاحِبِ العَمَلِ الخارِقِ الّذي أتاهُ نِيابةً عنِ الوَحشِ، وأضَلَّ بِهِ الّذينَ قَبِلوا عَلامةَ الوَحشِ وسَجَدوا لِتِمثالِهِ، وألقاهُما سَيِّدُنا عِيسى وهُما لا يَزالانِ على قَيدِ الحَياةِ في بُحيرةِ النّارِ المُشتَعِلةِ بِحِجارةِ الكِبريتِ.

الحساب

ثُمّ تَجَلّى عَرشٌ أبيَضُ عَظيمٌ، ورأيتُ بَهاءَ رَبِّ العَرشِ، وقد اختَفَت السَّماءُ والأرضُ مِن حَضرتِهِ، ولم يَعُد لهُما أثرٌ بَعدَ ذلِكَ. ثُمّ رأيتُ الأمواتَ يَقِفونَ أمامَ عَرشِ اللهِ، سَواءٌ عَظُمَ شأنُهُم أو قَلَّ. وفَتَحَ المَلائِكةُ سِجِلاّت جَميعِ الواقِفينَ، وبَعدَها فَتَحوا سِجِلاًّ آخَرَ هُو سِجِلُّ الخُلدِ. وحاسَبَهمُ اللهُ حَسَبَ أعمالِهم المُسَجَّلةِ في تِلكَ الكُتُبِ. أجل، لقد لَفَظَ البَحرُ ما فيهِ مِن أمواتٍ، وأخرَجَ القَبرُ والَموتُ ما فيهِما مِن أمواتٍ، ثُمّ حَكَمَ عليهِم اللهُ جَميعًا حَسَبَ ما أتوهُ مِن حَسَناتٍ وسَيئاتٍ.

ظهور الخلق الجديد

وقد تَجَلَّت أمامي سَماءٌ جَديدةٌ وأرضٌ جَديدةٌ، بَعدَ اختِفاءِ السَّماءِ الأُولى والأرضِ الأُولى، وغابَ البَحرُ عنِ الأرضِ الجَديدةِ. ورأيتُ المَدينةَ المُقَدَّسةَ، وهِي المَكانُ القُدسِيُّ الجَديدُ، تَنزِلُ مِن السَّماءِ مِن عِندِ اللهِ كعَروسٍ تَبَرَّجَت وتَهَيّأت لِلِقاءِ زَوجِها. وسَمِعتُ صَوتًا عاليًا لهاتِفٍ انبَعَثَ مِن قُربِ عَرشِ اللهِ المَجيدِ قائِلاً: “الآنَ يَتَجَلّى اللهُ بَينَ العالَمينَ ويَحِلُّ بَينَهُم، ومِن الآنَ تُصبِحُ شُعوبُ العالَمِ كُلِّها عِبادَهُ الصّالِحينَ، إنّ اللهَ رَفيقُهُم الأعلى. ومِن عُيونِهِم يُكَفكِفُ تَعالى كُلّ دَمعةٍ. فلا مَوتَ يَتَسَلَّطُ عليهِم بَعدَ الآنَ، ولا بُكاءَ ولا ألمَ يُصيبُهُم ولا هُم يَحزَنونَ، فكُلُّ ما مَضى، قدِ انتَهى وانقَضى”. وأوحى إليّ رَبُّ العَرشِ: “إنّي خالِقٌ الآنَ كُلَّ شَيءٍ مِن جَديدٍ”. ثُمّ أوحى إليّ ثانيةً: “أُكتُبْ ما يَلي: إنّ هذا كَلامُ صِدقٍ وحقٍّ مُبينٍ”. وقالَ أيضًا: “لقد قُضِي الأمرُ. أنا الألِفُ والياءُ، البِدايةُ والنِّهايةُ. أروي كُلَّ ظَمآنٍ مِن يَنبوعِ ماءِ الخُلدِ بِلا حِسابٍ. إنّ هذا جَزاءُ الفائِزينَ، وأنا أكونُ رَبَّهُم، وهُم يَكونونَ أهلَ بَيتي الأحِبّاءَ.