7

قصّة النبي إبراهيم

مدخل إلى قصّة النبي إبراهيم

يُعتبر النبي إبراهيم (عليه السلام) شخصا رئيسيا في الديانات السماوية، ويطلق عليه اليهود “أبانا إبراهيم”، بينما يسميه المسيحيون “أبانا في الإيمان” (انظر الإنجيل، روما 4: 16-17) ويقول المسلمون إنّ الإسلام هو ملّة إبراهيم. ويُعتبر النبي إبراهيم قدوة للمؤمنين في أخلاقه وإيمانه وأعماله. وحظي (عليه السلام) بصلة قريبة بالله على أساس ثقته به تعالى كما جاء في التوراة: ((آمن إبراهيم بوعد الله فحسبه تعالى مرضيا)) [التوراة، التكوين 15: 6]. وبناء على هذه الصّلة القريبة الحميمة يُدعى النبي إبراهيم “خليل الله” (انظر كتاب النبي أشعيا 41: 8 وكتاب أخبار الأيام الثاني 20: 7 وسورة النساء: 125).
وما يميّز النبي إبراهيم تشفّعه مع الله من أجل مدينتي سَدوم وعَمورة الشرّيرتين، بسبب وجود بعض الصّالحين فيهما وتحديدا ابن أخيه لوط (انظر التكوين 18: من 16 إلى 33، وسورة هود: 74).
وجاء في التوراة موضوع هام يتعلّق بمنح الله وعده للنبي إبراهيم بأن يباركه وذرّيته وأن يقيم ميثاقه معه، ولن تنحصر هذه البركة في إبراهيم وآل إبراهيم فقط، بل اختار الله ذرّيَّته لتكون وسيلة بركات الله لجميع الأمم (انظر التوراة، سفر التكوين 12: 1-3). وتتحقّق هذه البركات بشكل نهائي من خلال السيّد المسيح. ويمكننا الحصول على حلول روح الله فينا حسب وعده تعالى ومن خلاله (سلامُهُ علينا) (انظر الإنجيل، غلاطية 3: 14).
ويبرز وعد الله بخصوص الأرض للنبي إبراهيم وذرّيته في نص التوراة، ولكن الأرض لم تكن إلاّ وسيلة يفيض الله من خلالها بركاته على النّبي إبراهيم، ومن خلاله إلى العالمين. ولكن مع الأسف ركّز بنو يعقوب مع مرور الزمن على استيلائهم على الأرض، ولم يفهموا أنّ مقاصد الله هي أسمى من استيلائهم على قطعة أرض، فعاتب اسطفان وهو أوّل شهيد من صفوف أتباع السيّد المسيح أبناء شعبه اليهود لقصر نظرهم، إذ لم يتبصّروا أنّ الله هو رب كل البلاد وجميع الشعوب (انظر خطبته الواردة في سيرة الحواريين الفصل السابع).
وجاءت ولادة إسماعيل (عليه السلام) كما يلي: لم تستطع سارة أن تنجب أولادا فأصرّت على إبراهيم طالبة منه أن يتّخذ هاجرا أمّا لأولاده بدلا منها. وحسب القوانين في ذلك العصر، كان من حقّ الزوجة العاقر أن تحصل على ذرّية من خلال جاريتها. وتؤكد بعض الكتابات المنقوشة الموجودة في بلاد الشرق الأدنى هذه العادة على امتداد 2000 سنة قبل الميلاد. فالله لم يؤاخذ إبراهيم وسارة على هذا الفعل، بل أنعم على هاجر وإسماعيل فضلا كبيرا، وحظي إسماعيل بكونه الولد الأوّل في الكتب السماوية الذي سمّاه الله قبل ولادته (التكوين 16: 11)، بينما كانت هاجر المرأة الوحيدة في الكتاب المقدس التي حصلت على وعد الله بتزايد ذرّيتها (التكوين 16: 10)، وهي الوحيدة التي ألقت اسما على الله فقالت إنّه “الله البصير”.
وعندما بلغ إسماعيل الثالثة عشر من عمره، اكتشف إبراهيم أنّ وعد الله في الميثاق سيتحقّق من خلال سارة. وكانت ولادة إسماعيل (عليه السلام) وسيلة حلول بركات الله على هاجر وذرّيتها، مع أنّ ولادته لم تؤد إلى تحقيق وعود الميثاق الموجّهة إلى إبراهيم. ورغم ظروف هاجر العويصة حصلت على عناية إلهية خاصّة وعلى وعود من الله بأنّه سيباركها وذرّيتها كثيرا.
وتذكر التوراة أنّ الله أمر النبي إبراهيم بتقديم ابنه إسحق ذبيحا، وورد هذا الحدث المشهور في القرآن دون ذكر الابن الذي قدّمه (سورة الصافات، الآيات 100-111). واختلف الباحثون والمفسّرون المسلمون بخصوص هويّة الابن الذي قدّمه النّبي إبراهيم. ويقول اليعقوبي في تاريخه: “أمره الله أن يذبح ابنه، فالرّواية تختلف في إسماعيل وإسحق، فيقول قوم إنه إسماعيل لأنّه الذي وضع داره وبيته وإسحق بالشام، ويقول قوم إنّه إسحق لأنّه أخرج أمّه معه وكان يومئذ غلاما وإسماعيل رجل قد وُلد له”.

ونستطيع أن نرى إحسان الله الموجّه إلى كل من إسماعيل وإسحق، إذ أصبح إسماعيل أبا لاثني عشر ولدا، كذلك شأن إسحق الذي صار أيضا أبا لاثني عشر ولدا عن طريق ابنه يعقوب. وصار أبناء يعقوب الآباء الأوّلين للأسباط، أي عشائر بني يعقوب الاثني عشر.

قصّة النبي إبراهيم

نسب النبي إبراهيم

هذه ذرية أبناء تارَح: أنجب تارَحُ أبْرام (إبراهيم عليه السلام) وناحور وهاران. وأنجب هارانُ لوطًا (عليه السّلام). وتوفّي هاران قبل أبيه تارح في أرض ميلاده في أُور الكَلدانيّين في بلاد الرافدين. وتزوّج كلٌّ من إبراهيم وناحور. وكان اسم زوجة إبراهيم سارة واسم زوجة ناحور مِلْكة بنت هاران، وأختها يِسْكة. وكانت سارة عاقرًا لا تقدر على الإنجاب.
وأخذ تارح(٢) إبراهيم وسارة وحفيده لوطًا بن هاران، وخرجوا معًا من أور الكَلدانيّين وتوجّهوا إلى بلاد كنعان. لكنّهم عندما وصلوا إلَى حاران، استقرّوا فيها. وتوفّي تارح هناك لمّا كان عمره مئتين وخمس سنين.

دعوة الله لإبراهيم

وأوحى الله إلى إبراهيم (عليه السّلام) قائلا: “انطلق من بلدك وأهلك وبيت أبيك إلى الأرض التي أُريك. فإني جاعل من نسلك أمة عظيمة،(٤) وأباركك وأرفع اسمك عاليا بين الناس، وتكون بركة على العالمين. ومن يدعو لك بالبركات أباركه، ومَن يدعو عليك باللعنات أتبعه بلعنة الملعونين. وبك تحلّ بركاتي على أمم الأرض أجمعين”.
وكما أوحى الله إليه رحل النبي إبراهيم، وذهب معه لوط (عليه السّلام) مع الراحلين. وحين ترك النبي إبراهيم مدينة حاران كان قد بلغ من العمر الخامسة والسبعين. وأخذ معه زوجته سارة وابن أخيه لوط، وحملوا كلّ ممتلكاتهم ورافقهم في رحلتهم بعض سكّان حاران الذين صاروا إلى أهل بيته منضمّين. واتّجهوا جميعًا نحو أرض كنعان، وهي بلاد فلسطين.
ولمّا وصلوا أرض كَنعان بدأ النبي إبراهيم ومن معه يتجوّلون، إلى أن بلغوا مدينة شَكيم،(٥) فنصبوا خيامهم عند بَلّوطة المُعلِّم. وفي تلك الفترة كان الكَنعانيّون في تلك البلاد يقطنون.(٦)
وتجلّى الله للنبي إبراهيم وأوحى إليه: “هذه الأَرض تكون لنسلك اللاحقين”. فبنى (عليه السّلام) مذبحًا من الحجر لحرق القرابين، إكرامًا للهِ في المكان الّذي ظهرت فيه تجليات الله ربّ العالمين. وانتقلوا من هناك إلى الجبل شرق بيت إيل،(٧) ونَصبوا خيامهم بين بيت إيل غربًا وعاي شرقًا. وبنى النبي إبراهيم مذبحًا آخر لحرق القرابين إكرامًا للهِ وفي جواره تعبّد وكان من الساجدين. ثُمّ تابع إبراهيم سفره تدريجيًّا نحو صحراء النقب في جنوب فلسطين.
وحدثت مجاعة في بِلاد كنعان، فالتجأ إبراهيم (عليه السّلام) إلى مصر ليعيش فيها فترة من الزمن لأنّ المجاعة جعلتهم في شديد الأحوال. ولمَّا أصبح على مشارف بلاد مصر قال لزوجته سارة: “أعرف أنكِ فائقة الجمال، ومتى رآك المصريون سيقولون: إنها زوجته فلنقتله ونأخذها في الحال!” لهذا السبب قولي لهم إنك أختي،(٨) فيُحسنون معاملتي بسبب اهتمامهم بكِ فأنجو بحياتي من الزوال”.
وعندما وصلوا إلى مصر أعجب المصريون بجمال سارة كما توقّع النبي إبراهيم. ورآها بعض حاشية فرعون فمدحوها أمامه فأُخذت إلى قصر فرعون. وبسببها أحسن فرعون إلى النبي إبراهيم فحصل على خدم وجَوارٍ وأغنام وأبقار وجمال ودوابّ. ولكنّ الله ضرب فرعون وأهل بيته بأمراض خطيرة بسبب سارة زوجة النبي إبراهيم.(٩) فاستدعى فرعونُ النبي إبراهيم وقال له بشدّة: “لماذا لم تخبرني أنّها زوجتك؟ لماذا فعلتَ بي هذا العمل المُشين؟ ولماذا ادّعيتَ أنّها أختك حتّى أنّي أخذتُها زوجة لي؟ والآن، خذ زوجتك واذهبوا جميعا من هنا آمنين”. وأمر فرعونُ رجاله أن يُرافقوا النبي إبراهيم وزوجته وكلّ ما يملك إلى خارج تلك الأقاليم.

إبراهيم ولوط يفترقان

ورحل إبراهيم (عليه السّلام) مع زوجته ولوط من مصر بعد أن أخذ كل ما يملكه وتوجّه نحو صحراء النقب.(٢) وأصبح النبي إبراهيم غنيًا جدًا بما يملكه من ذهب وفضّة وأنعام. وانتقل من مكان إلى آخر، وانطلق من النَّقَب إلى أن وصل بيت إيل، حيث نصب خيمةً لَه كما فعل في سابق الأيّام، في المكان الذي أقام فيه محرقة لتقديم القرابين وصلّى وتعبّد الرّحمن.
وأصبح لوط (عليه السّلام) أيضًا غنيًا بما يملكه من خيام وأبقار وأغنام. وبسبب كثرة ما يملك إبراهيم ولوط من قطعان، ضاقت عليهما الأرض ولم يعد باستطاعتهما أن يقيما معًا في انسجام. ونشب نزاعٌ بين رعاة مواشي كليهما. وفي تلك الفترة كان الكنعانيون والفِرزيون يقيمون في تلك البلاد أيضًا. فقال النبي إبراهيم للوط: “لا أريد أن يحدث بيني وبينك نزاعٌ، ولا بين رعاتي ورعاتك فنحن أخوَان. ويمكنك أن تختار أي مكان لك في الأرض، فإن اتّجهت شمالا اتّجهتُ يمينا وان اتّجهت يمينا اتّجهتُ شمالا وهكذا يبتعد الطرفان”.
وتلفّت لوط (عليه السّلام) حوله فَرأَى غور نهر الأُردنّ قُرب مدينة صُوغَر،(٣) وكانت هذه المنطقة مراعيَ وبساتين، تشبه جنّة الله على الأرض أو بلاد مصر الخصبة. وكان ذلك قبل الخراب الّذي أنزله الله على عَمورَة وسَدوم. فاختار لوطٌ (عليه السّلام) لنفسه كلّ غور الأردنّ ورحل شرقًا مع رجاله ومواشيه، وانفصل بهذا عن إبراهيم. وفي أرضِ كنعان استقرّ النبي إبراهيم، ونقل لوطٌ خيامه إلى جوار سَدوم، حيث اختار في مدن الغور أن يقيم. وكان أَهل سَدوم بسبب هول الذنوب التي يرتكبونها في حق الله آثمين.
وبعد انفصال إبراهيم (عليه السّلام) عن لوط أوحى اللهُ إليه: “تطلَّعْ من المكان الّذي أنت فيه، وانظر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. سأجعل كلّ هذه الأرض الّتي تراها، ملكًا لك ولنسلك إلى أبد الآبدين. وأكثر نسلك وأجعله كتراب الأرض لا يستطيع أحد عده. قم وتجوّل في كل أرجاء الأرض، لأنّي وهبتها لك”. فانتقل النبي إبراهيم ومن معه إلى بَلّوطات مَمْرا قُرب مدينة حَبرون(٤) ونصبوا خيامهم هناك، حيث بنى إكرامًا لله مذبحا لتقديم القرابين.

النبي إبراهيم يحرّر لوطا من الأسر

واندلعت في تلك الأيام حرب في منطقة البحر الميت ومحيطه حيث استقرّ لوط (عليه السّلام).
وأُسِر لوطٌ الّذي كان يسكن في مدينة سدوم بعد أن أُخِذت كل ممتلكاته. وكان عمّه النبي إبراهيم حينها يقيم عند بَلّوطات مَمرا فجاءه أَحد رجال لوط الذي نجا وأخبره بكلّ ما جرى. ومَمرا الأَموريّ قريب أَشكول وعانِر، وكان جميعهم حلفاء إبراهيم العبرانيّ (عليه السّلام). فلمّا علم النبي إبراهيم بأسر ابن أخيه، جمع كل الموالي المدرّبين على القتال والذين في بيته مولودين، وكان عددهم ثلاث مئة وثمانية عشر، وتبِع جيش العدو شمالاً حتّى لحق به في مدينة دان في الجولان. وأثناء الليل، قسّم إبراهيم (عليه السّلام) رجاله، وأطبقوا على العدو من كلّ اتجاه، فهزموه وأخذوا يطاردونه حتّى حُوبة شمال دمشق. واسترجع النبي إبراهيم بهذا ابن أخيه لوطًا (عليه السّلام) وأملاكه والنساء وغيرهم من الأسرى وكل الغنائم التي سلبت منهم.
وفي وادي شَوَى، المعروف أيضًا بوادي الملك، خرج ملك سَدوم لاستقبال النبي إبراهيم عند عودته منتصرًا على كَدَرلَعَومَر والملوك الّذين حاربوا معه. وقدَّم الملك صادِق، ملك مدينة ساليم الّذي كان حَبرًا لله العليّ العظيم، خبزًا وشرابًا لإبراهيم، ودعا له بالبركات قائلا: “مباركٌ إبراهيم من الله العليّ العظيم، خالق السّماوات والأرضِ، وتبارك اللهُ العليّ العظيم الّذي جعل أَعداءك بين يديك صاغرين”. فأعطاه النبي إبراهيم العُشر من كلّ الغنائم الّتي حصل عليها. فأجابه ملك سَدُوم قائلا: “احتفظ بالغنائم وأَعطني المعتوقين من الأَسرى”. فأجابه النبي إبراهيمُ: “لقد أَقسمتُ بالله العليّ العظيم، خالق السّماوات والأرض، أن لا آخذ شيئًا من أملاكك، مهما كانت قيمته، حتّى لو كان خيطًا أو رباط نعل، لئلاَّ تقول: أنا أغنيتُ إبراهيم. إنّي لن أقبل منك غير ما أكله رجالي. أَمّا الحلفاء الّذين حاربوا معي، عانِر وأَشْكول ومَمْرا، فمن حقّهم أن يأخذوا نصيبهم كاملا”.

عهد الله للنبي إبراهيم

وبعد ذلك تجلّى اللهُ لإبراهيم (عليه السّلام) وأوحى إليه: “لا تخف يا إبراهيم. أَنا أحميك وأُدافع عنك، ولك عندي أجرٌ عظيم”.(٧) فقال النبي إبراهيم: “يا الله، يا ربّ، ما نفع كل هذا الخير الذي تعطيني إياه وأنت لم ترزقني ولدًا يرث بيتي، ولا وريث لديّ غير أَليعازَر الدمشقيّ”. وأضاف النبي إبراهيم قائلا: “ما رزقتني يا ربّ نسلا وإنّ ربيب بيتي هو وريثي”. فأوحى إليه الله مرّة أخرى: “لن يرثك أَليعازَر، بل يرثك ابنك الذي تُنجبُهُ من صلبك”. وأخذهُ إلى خارج الخيمة قائلا: “أنظر إلى السّماء وعُدّ النّجوم إن استطعت ذلك”. وأضاف: “هكذا يكون نسلك”. فآمن النبي إبراهيم بوعد الله، فحَسَبَهُ تعالى مَرضيًّا. وأوحى إليه: “أَنا اللهُ الّذي أخرجك من أُور الكَلْدانيّين في بلاد الرافدين أهبك هذه الأرض مُلكًا لك”. فقال إبراهيم (عليه السّلام): “اللهُمّ، كيف لي أن أتيقّن أنّي مالكها؟” ولاتمام الميثاق أمره الله بما يلي:(٨) “احمل معك إلى هذا المكان بقرةً وعنزةً وكبشًا عمر كلّ منها ثلاث سنوات، ويمامةً وحمامة”. فأتى النبي إبراهيم بهذه الحيوانات كلّها وذبحها وقدّمها لله، ثم شطرها شطرين، ووضع كلّ شطر منها مقابل الشطر الآخر. لكنّه ترك اليمامة والحمامة فلم يشقَّهما. وبعد حين، أَخذت الطّيور الجارحة تنقضّ على الذبائح، فزجرها النبي إبراهيم. وعند غروب الشمس، استسلم (عليه السّلام) لنوم عميق، وحلّ عليه ظلامٌ كثيف مخيف. فأوحى إليه الله في المنام: “اِعلمْ أَنّ نسلك سيتغرّب في بلاد ليست بلادهم، فيستعبدهم أهلها ويذلّونهم أربع مئة سنة. ولكنّي أُعاقب أهل تلك البلاد الّتي تستعبدهم ويخرج نسلك بأملاك كثيرة. أّمّا أنت فتموت بسلام بعد عمر طويل وتُدفن بحُسن الخاتمة. وفي الجيل الرابع يعود نسلك إلى هذه الأرض! لأنّ شر الأَموريّين لا بدّ أن يطغى ويبلغ مداه”.
وعندما غابت الشمس وحلّ الظلام، أرسل الله دخانًا كثيفًا ونارًا تشتعل من شيء شبيه بكانون،(٩) فعبر الدخان والنار بين الذبائح المصطفّة المشطورة نصفين. وفي ذلك اليوم أقام اللهُ مع النبي إبراهيم ميثاقًا ثم أوحى إليه: “أهبُ لك ولنسلك هذه الأرض(١) الّتي تمتدّ من وادي العَريش على حدود مصر إلى نهر الفرات الكبير،
يعني البلاد التي تسكنها الشعوب الوثنية.

ولادة إسماعيل

ولم يكن لسارة زوجة إبراهيم (عليه السّلام) أولاد. فطلبت من زوجها: “لقد حرمني الله من الولادة فادخل على جاريتي المصرية هاجر لعل الله يرزقني منها بنينا”.(٣) فسمِع النبي إبراهيم كلام زوجته. وأخذت سارة جاريتها المصرية هاجر، وقدّمتها لزوجها إبراهيم (عليه السّلام) لتكون زوجة له. وحدث هذا الأمر بعد عشر سنوات من إقامة النبي إبراهيم في بلاد كنعان. وعاشر إبراهيم (عليه السّلام) هاجر فحبلت. ولمّا رأت أنّها حاملٌ، بدأت تحتقر سيّدتها. فقالت سارة للنبي إبراهيم: “لقد ظلمتَني في هذا الأمر! أَنا جعلتُ جاريتي بين يديك. فلمّا رأت أنّها حامل، بدأت تحتقرني. إنّ الله سيُنصفني ويظهر من منّا على حق”. فَأجابها إبراهيم (عليه السّلام): “إنّها جاريتُكِ وهي تحت تصرّفك. افعلي بها ما شئت”. فأذلّتها سارة إذْلالاً وهربت هاجر من سارّة.
وسارت هاجر في الطريق الّتي تؤدّي إلى شور،(٤) وتوقّفت في الصحراء عند عين ماء. وهناك أتاها ملاكٌ. فقال لها: “مِن أين جئتِ يا هاجر، وإلى أين تذهبين؟” فقالت: “أنا هاربة من سيّدتي سارة”. فقال لها الملاك: “قال الله تعالى: اِرجعي إلى سيّدتك واخضعي لها. أنا سأُكثِّر نسلك، فلا يُعَدُّ من الكثرة”. ثُمّ أضاف الملاك قائلا: “أنتِ الآن حاملٌ ستلدين ولدًا، وعليك أن تسمّيه إسماعيل، أيّ “الله سميعٌ” لأَنّ الله سمع دعاءك حين استغثتِ به تعالى.(٥) وسيكون إسماعيل حرًّا مثل حصان جامح، يعادي الجميع والجميع يعادونه، ويعيش مُجاورًا لكلّ إخوته”.(٦) فنادت هاجرُ اللهَ الّذي أوحى إليها: “أنت البصير”. لأنّها قالت: “في هذا المكان أَبصرتُ تجلّيات الله البصير”. ومع مرور الزمن حفر الناس بئرًا في هذا المكان، وسمّوها “بئر الحيّ البصير” نسبة إلى ما قالته هاجر. وتقع بين قادِش وبَرَد.
وهكذا عادت هاجر إلى إبراهيم (عليه السّلام)، وولدت له ابنًا وسمّاه إسماعيل. ولمّا أنجبت هاجر إسماعيل كان النبي إبراهيم يبلغ من العمر ستًّا وثمانين سنةً.

ميثاق الله ووعده للنبي إبراهيم

وعندما بلغ النبي إبراهيم من عمره تسعًا وتسعين، تجلّى الله له وأوحى إليه: “أنا الله القويّ المتين. اسلُك بكلّ إخلاصٍ في صراطي المستقيم. فأعطيك ميثاقي وأرزقك نسلا كثيرا”. وانحنى إبراهيم (عليه السّلام) على وجهه ساجدًا، وأوحى اللهُ إليه من جديد: “هذا عهدي معك: أجعلك أبًا لأُمم كثيرة،(٨) ولذلك أغيّر اسمك، فلا يكون اسمك بعد الآن أبرام بل إبراهيم.(٩) وأكثّر نسلك ومنهم أجعل أُممًا وملوكا، وأقيم ميثاقي معك ومع نسلك من بعدك، جيلا بعد جيل. هذا هو الميثاق الأبدي معك: فأكون ربّك وربّ نسلك من بعدك إلى الأبد. وأُعطيك أرض كنعان كلّها، الأرض الّتي تسكن فيها غريبا الآن، إنّها لك ولنسلك مُلكًا أَبديًّا، وأنا ربّكم جميعًا”.
ثمّ أوحى الله إلى إبراهيم (عليه السّلام): “إنّ عليك أن تُخلص لهذا الميثاق، أنت ونسلك جيلا بعد جيل. وإنّ علامة إخلاصكم للميثاق أن تختنوا كلُّ ذَكَر منكم.(١) وعلى مرّ الزمن، يُختَنُ كلُّ ذكر منكم وهو ابن ثمانية أيّام، سواءٌ كان من أبنائكم أَو خدمكم، إنّ هذا واجب عليكم جميعًا. فيكون لديكم علامة في أجسامكم عهدًا لميثاقي الذي يدوم إلى الأبد. أمّا الذّكَر الّذي يرفض أن يُختن، فيُقْصى عن قومه لأنّه خالف ميثاقي”.
وأوحى اللهُ إلى النبي إبراهيم أَيضًا: “سأغيّر اسم زوجتك فلا يكون ساراي بعد الآن بل سارة.(٢) وأباركها وأرزقك ابنًا منها. نعم، سأباركها فتكون أُمًّا لأمم ويأتي منها ملوك شعوب”. فانحنى النبي إبراهيمُ على وجهه ساجدًا وضحك وقال في نفسه: “كيف أُنجب ابنًا وقد بلغتُ مئة سنة؟ وكيف تلد سارة وهي في التسعين مِن عمرها؟” وقال إبراهيم (عليه السّلام) لله: “اللهمّ اجعل إسماعيل في ظلك من المرتضين”. فأوحى اللهُ إليه: “بل ستلد لك سارة ابنًا وعليك أن تسمّيه إسحق. وسأقيم ميثاقي معه، ميثاقا أبديًّا له ولنسله من بعده. أمّا إسماعيل فقد سمعتُ دعاءك من أجله، وسأباركه وأُكثّر ذريته، فيُنجب اثني عشر أميرا(٣) وأجعل نسلَه أُمّةً عظيمةً. وستنجب لك سارة بعد عام من الآن ولدًا اسمه إسحق ومعه أقيم ميثاقي”. وعندئذ انتهت التجلّيات ومعها الوحي.
وفي اليوم نفسه ختن إبراهيم ابنه إسماعيل (عليهما السلام) وكلّ الذكور سواء المولودين في بيته أو الخدم، كما أمره اللهُ. وخُتن النبي إبراهيم في سن تسع وتسعين سنة وابنه إسماعيل في سن الثالثة عشرة. وهكذا خُتن الأب والابن في اليوم نفسه، كما خُتن كلّ الذكور المولودين أو الوافدين على بيت النبي إبراهيم.

وعد الله بولادة إسحق

وفي أحد الأيام وبينما كان النبي إبراهيم (عليه السّلام) جالسًا في مدخل خيمته عند بَلّوطات مَمْرا، تجلّى الله له في الهجيرة. فنظر النبي إبراهيم ورأى ما يشبه ثلاثة رجال واقفين أمامه. وعندما رآهم قام مسْرعًا من مدخل خيمته لاستقبالهم، ورحّب بهم وانحنى إلى الأرض احترامًا لهم وقال: “أيّها السادة، هل تشرّفونني بقبول دعوتي؟ أرجوكم، لا تذهبوا دون زيارتي. دعني أُقدّم لكم قليلا من الماء تغسلون به أرجلكم،(٦) وتفضّلوا استريحوا تحت هذا الشجر. إنّ ساعة زيارتكم لعبدكم المتواضع هي ساعة مباركة! فدعوني أقدّم لكم لقمة خبز تسندون بها قلوبكم، ثمّ تواصلون مسيرتكم”. فأجابوه: “حسنًا، ليكن كما قلت”. فأسرع إبراهيم (عليه السّلام) إلى زوجته سارة داخل الخيمة قائلا: “هيّا أَسرعي واعجني ثلاث كيلات من أفضل الدقيق واخبزيها”. ثمّ أسرع (عليه السّلام) إلى القطيع، واختار واحدًا من أفضل العجول، وأعطاه لأحد الخدم فسارع بتجهيزه. وعندما حضر الطعام، قدّم النبي إبراهيم زبدة ولبنًا والعجل الذي طبخه (عليه السّلام) لضيوفه، فأكلوا(٧) وهو واقفٌ يخدمهم تحت الشجرة. ثمّ سألوه: “أين زوجتك سارة؟” فأجابهم: “إنّها هناك في الخيمة”. فقال أحدهم: “سأعود إليك في السنة القادمة في مِثل هذا الوقت وتكون سارة قد انجبت ابنًا”. وكانت سارة في الخيمة تتابع الحديث الّذي يدور بينهما. وكان النبي إبراهيم طاعنًا في السنّ وزوجته سارة تجاوزت سنّ الإنجاب. فضحكت سارة في نفسها وقالت: “كيف أَتنعّم بهذه المُتعة بعدما عجزتُ وشاخ زوجي؟” فأوحى الله على لسان رسوله إلى النبي إبراهيم: “لماذا ضحكت سارة وقالت: هل ألد وأنا عجوزٌ؟ ألا تعلمان أنّ اللهَ على كل شيء قدير؟ سأُعود إليك في هذا الوقت من السنة القادمة، وسارة قد أنجبت ابنًا”. فأنكرت سارة لأنّها خافت قائلة: “ما ضحكتُ”. أمّا الرسول فقال: “لا، بل ضحكتِ”.
ثمّ نهض الضيوف واتّجهوا نحو مدينة سَدوم، ورافقهم إبراهيم (عليه السّلام) ليودّعهم. فأوحى الله: “لا يجوز أن أُخفي عن إبراهيم ما سأفعله، لأن أُممًا عظيمة وقويّة ستنحدر منه وبه أبارك جميع شعوب الأرض. لأنّي اخترتُه ليرشد بنيه وأهل بيته من بعده أن يسلكوا الصراط المستقيم، ويعملوا صالحا وعدلا، حتّى أفي بما وعدتُهُ به”.
ثمّ أوحى الله إلى إبراهيم (عليه السّلام): “إنّي سميعٌ لاستغاثة الناس إليّ بسبب ظلم أهل سَدوم وعَمورة. وإنّ معاصيهم صارت خطيرة جدًّا. ولذلك سأُتجلّى هناك لأسبر أغوارهم وأمتحنهم ليكون برهانًا عليهم.(٨) لا بدّ أَن أمتحنهم”. وأرسل الله رسولان توجّها من هناك إلى سَدوم، في حين ظلّ النبي إبراهيم في خشوع في حضرة مقام ربّه. واقترب إبراهيم (عليه السّلام) وقال: “هل تُهلك الصّالح بفساد الطّالح؟ ربَّما كان في المدينة خمسونَ صالحًا، هل تُهلكُها كلَّها ولا تصفح عنها من أجلِ الخمسين صالحًا فيها؟ حاشا يا ربّ، أَن تُميت الصّالح مع الشّرّير، فتعامل الصّالح كالشّرّير. مُنزّهٌ أنت عن هذا، وأنت فوق الناس الحَكَم العادل الذي لا يجور.” فأوحى اللهُ: “إن وجدتُ خمسين صالحًا في سَدوم صَفحتُ عن المدينة كلّها إكرامًا لهم”. فتوسّل (عليه السّلام): “إنّي أتجاسر فأكلّم ربّي ومولاي، مع أَنّي مجرّد تراب ورماد. ربّما نقص الخمسون صالحًا خمسة، فهل تُهلك كلّ المدينة للخمسة الناقصين؟” فأوحى إليه تعالى: “لا أُهلكها إن وجدتُ هناك خمسة وأربعين”. فتضرّع النبي إبراهيم: “فإن وجدتَ يا مولاي أربعين فقط!” فأجابه: “لا أُهلكها إكرامًا للأربعين”. فقال (عليه السّلام): “لا يغضب مولاي، بل اسمح لي أن أتكلّم، فإن وجدتَ ثلاثين فقط!” فأجاب تعالى: “لا أُهلكها إن وجدتُ هناك ثلاثين صالحا”. فتضرّع النبي إبراهيم: “إنّي أَتجاسرُ فأكلّم المولى! لنفرض أنّك وجدتَ عشرين فقط!” فأجاب: “لا أُهلكُها من أجل العشرين”. فقال النبي إبراهيم: “لا يغضب مولاي فأتكلّم لآخر مرّة: وإن وجدتَ هناك عشرة؟” فأوحى إليه: “لا أُهلك المدينة إكرامًا للعشرة الصالحين”.(٩) وأَنهى الله الوحي، فعاد إبراهيم إلى خيمته.

عقاب قوم لوط

وعند المساء أقبل الملاكان على سَدوم. وكان لوطٌ (عليه السّلام) جالسًا عند بوّابة المدينة، فما إن رآهما حتّى قام لاستقبالهما، وانحنى إلى الأرض احترامًا لهما. وقال: “يا سيِّدَيَّ، أرجو أن تنزلا ضيفين في بيت عبدكما، ففيه تغسلان أرجلكما وتقضيان الليلة، وفي الصباح الباكر تمضيان في طريقكما”. فأجابا: “بل نبيتُ في الساحة”. وألحّ لوط عليهما كثيرًا حتّى رافقاه ودخلا بيته، فطبخ لهما وليمةً وخبزا فطيرا فأكلا. وقبل أن يناما جاء رجال سَدوم جميعًا، شُبّانًا وشيوخًا، وأحاطوا بالبيت من كلّ جهة، ونادوا لوطًا (عليه السّلام): “يا لوط، أين الرّجلان اللّذان نزلا عندك الليلة؟ أخرجهما إلينا حتّى نعاشرهما”. فخرج إليهم لوط (عليه السّلام) وأغلق الباب وراءه وقال: “يا إخوتي، لا ترتكبوا هذا الإثم العظيم. إنّ لي صبيّتين، وإنّي لأبذلهما لكم فافعلوا بهما ما تشتهون، أَمّا هذان الرجلان فلا تسيئوا إليهما لأنّهما ضيفان في حِمَى منزلي”.(٢) فأجابوه: “افسح الطريق!” ثمّ قالوا: “جاء هذا الرجل غريبًا، وها هو الآن يريد أن يتحكّم فينا! لنفعلنّ الآن بك أسوأَ ممّا نفعل بهما!” ودفعوا لوطًا (عليه السّلام) إلى الوراء وتقدّموا ليكسروا الباب. غير أَنّ الملاكين مدّا أيديهما واجتذبا لوطًا (عليه السّلام) إلى داخل البيت، وأغلقا الباب بإحكام. وضربا بالعمى الرجال الّذين على الباب، صغارًا وكبارًا، فارتدّوا عن اقتحام الباب.
وقال الملاكان للوطٍ (عليه السّلام): “هل لك أقرباء في هذه المدينة؟ أخرجهم منها، سواء كانوا أصهارك أم بنيك أم بناتك أم غيرهم من أحبابك. إنّا مهلكو هذه المدينة برمّتها عمّا قريب، لأنّ الشّكاوى تعاظمت ضدّ أهلها وبلغت حدّا أنّ الله أرسلَنا لندمّرها.” فأسرع لوطٌ (عليه السّلام) إلى خطيبي ابنتيه وقال: “أسرعا واخرجا من هنا، إنّ الله مخَرّب المدينةَ.” فظنّ صهراه أنّه يمزح. وعند طلوع الفجر، أخذ الملاكان يلحّان على لوط (عليه السّلام): “أسرع الآن وفرّ بزوجتك وبنتَيْك اللّتين هنا، لابدّ أن تهربوا حتّى لا تهلكوا عندما يحلّ العقاب على الظالمين.” وعند تردّد لوط (عليه السّلام)، أمسك الملاكان بيده وأيدي زوجته وبنتيه، وأخرجاهم من المدينة سالمين، لأَنّ الله أشفق عليهم. وما إن خرجوا من المدينة حتّى قال أحد الملاكين: “اهربوا وانجوا بحياتكم! ولا تلتفتوا وراءكم ولا تتوقّفوا في واد الغور كلّه! اهربوا إلى الجبل لئلاّ تهلكوا!” فقال (عليه السّلام): “لا يا سيّدي. قد رضيتَ عن عبدك وغمرتَني بلطفك فأنقذت حياتي. وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل، فقد يلحقني ما سيحلّ على مدينة سدوم من عقاب فأموت. ولكن اُنظر إلى تلك القرية الصغيرة، إنّها قريبة من هنا، فاسمحْ لي أن أهرب إليها وأنجو بحياتي”. فقال له الملاك: “حسنًا، سأحقّق طلبك فلا أدمّر تلك القرية. لكن عليك أن تهرب إليها بسرعة لأنّي لا أقدر أن أفعل شيئًا حتّى تصل إليها”. وبسبب هذه الحادثة سُميت القرية صُوغَر فيما بعد.
وما إن وصل لوط (عليه السّلام) إلى صُوغَر حتّى بزغت الشمس. فأمطر الله على سَدوم وعَمُورَة من السماء نارًا وحجارة من كبريت مشتعل.(٣) وأهلك المدينتين وكل المدن والقرى في المنطقة بسكّانها، وأحرق كلّ النّباتات أيضا. أمّا زوجة لوط، فلم تكترث إلى إنذار الملاك وعصت والتفتت خلفها فصارت عمود ملح.(٤)
وفي صباح اليوم التالي، قام النبي إبراهيم ومضى إلى المكان الّذي وقف فيه في حضرة الله. ونظر (عليه السّلام) نحو سَدوم وعَمُورَة في الغور فرأى الدخان الكثيف يتصاعد منهما مثل دخان الأتون. واستجاب الله لطلب النبيّ إبراهيم، وأنقذ لوطًا إذ أخرجه قبل حلول الكارثة الّتي أهلكت مدن الغور.

ولادة إسحق

وأنعم الله على سارة كما وعد، فحملت وأنجبت ابنًا لإبراهيم (عليه السّلام) في شيخوخته، في الوقت الّذي حدّده وحي الله. وسمّى النبي إبراهيم ابنه من سارة إسحق، ومعناه “ضحك”. وختن النبي إبراهيم ابنه إسحق في اليوم الثامن من عمره تطبيقًا لِما أمره الله به. وحين رُزق إبراهيمُ بإسحق (عليهما السلام) كان عمره مئة سنة. وقالت سارة: “لقد أضحكني الله، وكلّ مَن يسمع بهذا الخبر يضحك معي”. وقالت: “مَن كان يتوقّع أني سأَرضع لإبراهيم بنين وهو شيخ؟ ها قد أنجبت له ابنًا!”

وعد الله لهاجر

بمناسبة فطام إسحق، أقام النبي إبراهيم وليمة عظيمة إكرامًا له. ورأت سارة أن إسماعيل ابن هاجر المصرية يسخر من ابنها إسحق، فقالت للنبي إبراهيم: “أَطْرِدْ هذه الجارية وابنها! لا يرث ابن هذه الجارية مع ابني إسحَق”. وانزعج النبي إبراهيم من هذا الكلام كثيرًا، لأنّ إسماعيل (عليه السّلام) ابنه أيضًا. فأوحى الله إليه: “لا تنزعج بشأن ابنك وجاريتك. واعمل بما تقوله لك سارة، فمِن إسحق ينحدر الورثة وبهم أحقق وعدي لك. ومن إسماعيل أجعل أمّة عظيمة لأنّه ابنك أيضًا”.
وفي الصباح الباكر أخذ إبراهيم (عليه السّلام) خبزًا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر ووضعهما على كتفها وأطلقها هي وابنها، فمضت تهيم على وجهِها في صحراء بئر السبع. وعندما فرغ الماء من القربة، تركت ابنها (عليه السّلام) تحت شجرة صغيرة ومضت تراقبه وهي جالسة على بعد رميتي قوس (حوالي مئة متر) لأنّها قالت في نفسها: “لا أستطيع أن أتحمّل رؤية ابني وهو يموت أمامي”. وأجهشت بالبكاء. وسمع الله إسماعيل (عليه السّلام) يستغيث، فهتف ملاكٌ من السماء لهاجر وأوحى إليها: “لا عليكِ يا هاجر! لا تخافي، لأنّ الله سمع صوت الولد وهو ينادي من حيث ألقي! والآن انهضي وخذي ابنك وشدّي بيده، فالله سيجعل من نسله أمّة عظيمة”. وفتح اللهُ بصيرة هاجر فرأت بئر ماء، فهرولت إليها وملأتِ القربةَ ماءً وسقتِ ابنها (عليه السّلام). وكان الله مع إسماعيل (عليه السّلام) خير معين. ومع مرور الزمن كبُر الصّبيُّ وأقام بصحراء فاران، وأصبح صيادًا ماهرًا في الرماية بالقوس والسهام. وزوَّجته أُمُّهُ بنتا من أرض مصر.

إبراهيم وابنه ذبيحة الله

وبعد مرور سنوات على هذه الأحداث امتحن الله نبيه إبراهيم، فأوحى إليه: “يا إبراهيم!” فقال: “لَبَّيكَ”. فأوحى إليه تعالى: “خُذ إسحَق وريثك الوحيد(٩) الّذي تحبّه واذهب إلى أرض مُوريّة، واذبحه هناك(١) واحرقه كأضحية على جبل أدُلّك عليه”.(٢) فأسرج النبي إبراهيم دابته في الصباح الباكر وقطع حطبًا لإحراق الأضحية كلّها لله،(٣) ثمّ أخذ ابنه إسحَق (عليه السّلام) واثنين من خدمه واتّجه إلى الموضع الّذي دلّه الله عليه. وفي اليوم الثالث نظر النبي إبراهيم أمامه، فلاح له المكان من بعيد، فقال لخادمَيه: “انتظرا هنا مع الدابّة. سأذهب مع ابني لنعبد الله هناك ثمّ نعود إليكما”. وحمل النبي إبراهيم (عليه السّلام) النار والسّكّين، بعد أن وضع الحطب على كاهل ابنه إسحق (عليه السّلام)، واتّجها معًا إلى قمة الجبل. فالتفت إسحَق (عليه السّلام) إلى أبيه قائلا: “يا أبي!” فأجابه إبراهيم: “نعم يا بُنيّ”. قال: “هذه النّار في يدك والحطب على كاهلي، فأين كبش الأُضحية؟” فأجابه إبراهيم (عليه السّلام): “الله يتولّى أمر كبش الأضحية يا ولدي”. وتابعا سيرهما معًا. ولمّا وصلا إلى الموضع الّذي حدّده الله لإبراهيم، بنى من الحجر مذبحًا لإحراق القربان لله، ورتّب عليه الحطب، وربط ابنه إسحَق (عليه السّلام)، وفي المذبح وضعه فوق الحطب على الجبين.(٤) ومدّ النبي إبراهيم يده ليذبح ابنه ومسك السِّكّين. فهتف ملاكٌ من السّماء: “إبراهيم، يا إبراهيم!” فأجابه: “لَبَّيك!” فتابع الملاك قائلا: “لا تمدّ يدك إلى ابنك ولا تؤذيه أبدًا. لقد عرفتُ الآن أنّك تخاف ربّك، فما تردّدتَ أبدًا وقدّمتَ ابنك وريثك الوحيد قربانا لله”. ثمّ أجال النبي إبراهيم النظر حوله فرأى وراءه كبشًا عالقًا بقرنيه بين الشُّجَيرات، فأقبل عليه وأخذه وذبحه وأحرقه قربانًا لله بدل ابنه اسحَق (عليه السّلام). وسمَّى النبي إبراهيم ذلك الموضع “جبل المُدبّر الوهّاب”. والناس إلى يومنا هذا يضربون المثل القائل: “يهب الله على جبله ويدبّر”.(٥) وهتف الملاك للنبي إبراهيم مِن السّماء ثانيةً: “قال الله تعالى: أقسم بجلالتي،(٦) لأَنّك أطعتني ولم تبخل عليّ بابنك وريثك الوحيد، فإنّي بلا ريب أُباركك بالرعاية والحماية، وأُكثر نسلك، ليكون في كثرته كالنّجوم، أو كرمال الشّاطئ لا يُعدُّون، وأنصر نسلك على مدن أعدائهم، ولأنك أطعتني فإنّي أباركك يا إبراهيم وبفَضلِ نَسلِكَ ستحلّ تلك البركات على أمم الأرض أجمعين”.(٧)
وعاد النبي إبراهيم بعد ذلك إلى خادمَيهِ، واتّجهوا جميعًا إلى بئر السبع، حيث أقام إبراهيم.

وفاة سارة ودفنها

وعاشت سارة مئةً وسبعًا وعشرين سنة وتوفّيت في قرية أربع، وهي التي تُعرف بحَبرون، في أرض كنعان. وبكى إبراهيم (عليه السّلام) سارة وحزنها. وترك جثمانها مُسَجَّى وتوجّه إلى الحِثِّيِّين وهم من سكّان تلك الأرض، وقال لهم: “أنا غريب ونزيل بينكم. اِسمحوا لي بشراء قطعة أرض لأجعلها قبرًا أدفن فيه زوجتي الّتي فارقت الحياة”. فأجابه الحِثِّيّون: “اسمع أيّها السيد، لقد جعلك الله أميرًا رفيع المقام بيننا، فادفن زوجتك في أفضل قبورنا، لا أحد منّا يمنع مدافنه عنك لتدفن فيه زوجتك”. فانحنى إبراهيم (عليه السّلام) احترامًا للحِثّيّين أهل تلك الأرض وقال لهم: “وإذ أنتم مستعدّون لمساعدتي على دفن زوجتي، فإنّي ألتمس منكم أن تطلبوا من عَفرون بن صُوحر أن يبيعني مغارة المَكفيلة(٩) التي يملكها وأنا مستعد أن أشتريها بثمنها كاملا، لتكون من الآن مدفنًا لأهلي في أراضيكم”. وكان عَفرون الحثِّيّ جالسًا مع بقية الحِثِّيّين يسمع النبي إبراهيم، فأجابه أمام جميع الشيوخ الحاضرين في المجلس أمام بوابة المدينة: “لا يا سيّدي، اسمع ما سأقول. إنّي أُعطيك الحقل والمغارة الّتي فيه هدية مني إليك، وإنّ قومي على هذا شاهدون فادفنْ زوجتك الراحلة”.
فانحنى النبي إبراهيم أمام أهل تلك الأرض، وقال لعَفرون على مسمع من أهلها: “أرجوك يا عفرون بن صوحر أن تسمعني، خذ ثمن الحقل كاملاً، اقبله مني حتّى أدفن زوجتي هناك”. فأجاب عَفرون إبراهيم (عليه السّلام): “أرجوك يا سيّدي أن تصغي إليّ. هذه الأرض تساوي أربع مئة قطعة من الفضّة، لا قيمة لهذا المال أمام ما بيني وبينك! ادفنْ زوجتك فيها”. فقبل النبي إبراهيم (عليه السّلام) عرض عَفرون، ووزن له أربع مئة قطعة من الفضّة حسب الوزن المتعارَف عليه بين التجّار. وكان شيوخ الحِثِّيّين شهودًا على ما دار بينهما.
واشترى النبي إبراهيم حقل عَفرون في المَكفيلة قُرب بلوطات مَمْرا، بما فيه من مغارة وشجر. وأصبح مُلكًا له بشهادة شيوخ الحِثّيّين وكلّ من جاء إلى بوّابة المدينة.(١) وهكذا دفن إبراهيم (عليه السّلام) زوجته سارة في مغارة حقل المَكفيلة قرب بلوطات مَمْرا، وهي حَبرون في أرض كنعان. وانتقل الحقل والمغارة من مِلكيّة الحِثِّيّين إلى النبي إبراهيم (عليه السّلام) ليكونا مدفنًا لأهله.

زواج النبي إسحق

وأصبح إبراهيم (عليه السّلام) شيخًا هرمًا يتمتّع ببركة من الله في كُلّ شيء. وقال النبي إبراهيم لكبير خدم بيته الّذي كان وكيلاً على أملاكه كلّها: “أقسم لي قَسمًا مغلظًا بالله ربّ السّماوات والأرض، أن لا تأخذ زوجةً لابني إسحَق من بنات الكنعانيّين الّذين أقيم بينهم،(٤) بل اذهب إلى أرضي وإلى عشيرتي واختر منهم زوجة له”. فقال له الخادم: “ربّما رفضت الفتاة مرافقتي إلى هذه الأرض، فهل أعود واصطحب ابنك إلى الأرض الّتي جئتَ منها؟” فقاطعه النبي إبراهيم قائلاً: “إيّاك أن تأخذ ابني إلى هناك! فالله ربّ السماوات والأرض أرسلني من بيت أبي ومن مسقط رأسي لأقيم في هذه البلاد، وأوحى إليّ بهذا الوعد: “لنسلك أُهب هذه الأرض،” وإنّي على ثقة أنّ الله سيُرسل ملاكه أمامك ليدُلّك على زوجة ابني. وإنْ رفضت الفتاة أن ترافقك إلى هنا تكون أَنت في حل من القسم الذي قسمته لي، واحذر في كل الأحوال أن تأخذ ابني إلى تلك البلاد.” فأقسم الخادم لمولاه إبراهيم (عليه السّلام) أن يُطيع كل أوامره.
وأخذ الخادم عشرة من إبل النبي إبراهيم محمّلةً بأنواع شتى من الهدايا الثمينة واتّجه إلى بلاد آرام الّتي تقع ما بين النّهرين في سوريا، حيث يسكن ناحورُ أخو النبي إبراهيم. وبعد رحلة طويلة، وعند الغروب وصل الخادم إلى مشارف البلدة وأناخ جماله على مقربة بئر، وتزامن ذلك مع موعد خروج النساء للتزوّد بالماء. فتوجّه بالدعاء إلى الله: “اللّهُمّ يا مَن يعبدك مولاي إبراهيم، أَتوسّل إليك اليوم أن تيسّر أمري وتحسن إليه. أنا واقفٌ الآن بجانب البئر، وها أن بنات البلدة مقبلات لجلب الماء، اللهمّ يا ربّي دلّني بإشارة منك على زوجة ابن سيّدي إبراهيم، ها أَنا سأطلب من إحداهن أن تسقيني من جرّتها، فإذا قالت: تفضّل يا سيّدي واشربْ وسأسقي جمالك أيضا، كانت تلك إشارة منك على أنّها من اخترتها لعبدك إسحَق. وبذلك أتيقّن أنّك حقّقت وعدك لمولاي”.
وما كاد يفرغ مِن دعائه حتّى شاهد رِفْقَة ابنة بتوئيل ابن مِلْكَة زوجة ناحور أخ إبراهيم، تقبل وجرّتها على كتفها. وكانت رِفقة رائعةَ الجمال، عذراء لم يمسّها رجل. وحين ملأت جرّتها من البئر أسرع إليها الخادم وقال: “أرجوك، اسقيني شربة ماء مِن جرّتك”. فقالت: “تفضّل يا سيّدي اِشرب”. وفي الحال أنزلت جرّتها من كتفها وسقتْه. ولمّا شرب قالت له: “سأسقي جمالك أيضا حتّى ترتوي”. وأفرغت جرّتها في الحوض وظلّت تملؤه ماءً إلى أن شربت كل الجمال، وكان الخادم يراقبها في صمت وإمعان ليتأكّد إن كان الله قد وفَّقه في مهمّته.
ولمّا شربت الجمال قدّم الرجل لرِفقة خُزامةً من ذهب وسوارين كبيرين من ذهب وقال لها: من يكون أبوك؟ وهل في بيته مكان نبيت فيه؟” فقالت له: “أنا بنت بَتوئيل ابن مِلْكة وناحور”. وأضافت قائلة: “عندنا مكان تبيت فيه وكثيرٌ من التّبن والعلف لجمالك”. فركع الرجل وسجد لله وقال: “تبارك اللهُ الّذي يعبده مولاي إبراهيم، إنّه لم يتخلَّ عن كرمه ووفائه له، فهداني في طريقي إلى بيت إخوته”.
فأسرعت رِفقة إلى بيت أُمّها وأخبرتها بكلّ ما حصل لها. وعندما رأى أخوها لابان الخُزامةَ والسوارين في يد أُخته وعلم بما دار بينها وبين الرجل، خرج مسرعًا إلى البئر، فوجد الرجل واقفًا هناك عند الجمال. فقال له: “تفضّل يا مَن باركه الله، لماذا تقف خارجًا؟ لقد رتّبتُ لك مكانا في البيت وهيّأتُ للجمال مبيتًا!” ورافقه الخادم، وعند الوصول إلى البيت أنزل خدم لابانُ الأحمال عن الجمال وجهّزوا مكانًا تبيت فيه وقدموا لها العلف، وأحضروا ماء للضيوف ليغسلوا أرجلهم.
وحين وضعوا الطّعام أمام الضيوف قاطعهم خادم النبي إبراهيم قائلا: “لن آكل حتّى أُخبركم بمهمّتي”. فأجابه لابان: “أخبرنا إنَّا لك مصغون”. فقال: “أنا خادم إبراهيم، قد أنعم الله عليه بنعم كثيرة فأصبح غنيًّا. لقد أنعم عليه تعالى بأغنام وأبقار وفضّة وذهب وعبيد وجواري وجمال ودواب. وأنجبت له زوجته سارة ابنًا رغم تقدّمها في السن، فجعله مولاي إبراهيم وريثًا لجميع ماله. واستحلفني قائلا: لا تتّخذ لابني زوجةً من بنات الكنعانيّين الّذين أقيم في أرضهم، بل عليك أن تذهب إلى عشيرتي وتختار منها زوجةً لابني.

إسحق يطلب يد رفقة

وقد جئتُ اليوم إلى البئر وتوجّهت بالدعاء إلى الله: “اللّهُمّ يا من يعبدك مولاي إبراهيم، أتوسّل إليك أَن توفّقني في المهمّة الّتي جئتُ من أجلها. إنّي واقفٌ عند البئر، والفتيات مقبلات عليها، وإنّي سأطلب من إحداهنّ أن تسقيني من جرّتها، فإن أجابتني: “تفضّل، اشربْ، وسأسقي جمالك أيضا،” علمتُ أن هذه الفتاة هي من يريدها الله لابن مولاي.”
وما كدت أنْهِي الدعاء في قلبي حتّى خرجت رِفقةُ وجرّتها على كتفها، فنزلت إلى البئر لتملأها ماء. فقلتُ لها: أرجوك يا فتاة، اسقيني شربة ماء. فأسرعت وأنزلت جرّتها، وقالت: “تفضّل، اشربْ، وسأسقي جمالك أيضًا.” فشربتُ، بينما تولّت هي سقاية الجمال. فسألتُها: من يكون أبوك؟ فقالت: “أنا بنت بَتوئيل بن مِلْكَة وناحور”. فوضعتُ الخُزامة في أنفها والسِّوارين في يديها، وركعتُ ساجدًا لله الّذي يعبده مولاي إبراهيم وسبّحتُ بحمده لأنّه هداني السبيل السوي لأختار زوجة لابنه من عشيرته. فإن كنتم مخلصين لمولاي إبراهيم وتظهرون له الوفاء، أخبروني الآن إن كنتم تقبلون ابنه زوجًا لابنتكم، وإن كنتم لا تقبلون بذلك فأخبروني حتّى أرى لي وجهةٌ أخرى”. فأجاب لابانُ وبَتوئيلُ: “لقد صدر هذا الأَمر من الله، فلا يمكننا أن نُعقِّب على ما أمر الله به! هذه رفقةُ أمامك، خُذها معك لتكون زوجةً لابن مولاك كما أمر الله”. فلمّا سمع خادم النبي إبراهيم كلامهم سجد لله تعالى شُكرًا. وقدم لرِفقة ثيابًا وحليا من ذهب وفضّة، وأهدى أخاها وأُمّها تُحفًا ثمينةً.
وأكل الجميع وشربوا وباتوا ليلتهم. وقال الرجل في الصباح: “دعوني أَعُدْ إلى مولاي”.

زواج إسحق ورفقة

فصرفوا رفقةَ صحبة مُرضعتها وخادم النبي إبراهيم ورجاله. وطلبوا من الله أن تحلّ البركة على رفقة أختهم قائلين: “فليكثر الله ذريتك حتّى يصيروا أُلوفًا مُؤلَّفةً، وليجعل نسلكِ يستولي على مدن أَعدائهم”.
فركبت رِفقة ومرضعتها وبعض جواريها الجمال وتبِعْنَ الرّجل ومضوا جميعًا.
وكان النبي إسحَق في تلك الفترة يقيم بصحراء النَّقب في جنوب كنعان، بمكان قريب من بئر الحي البصير. وذات مساء، وبينما كان إسحق (عليه السّلام) يتجوّل في الحقل، رأى موكبًا من الجمال يقبل نحوه. وعندما رأت رفقة إسحَق (عليه السّلام) نزلت عن الجمل. وسألتِ الخادمَ: “مَن يكون هذا الرجل القادم ليستقبلنا؟” فأجابها: “هو مولاي إسحَق”. فأخذت رفقةُ البُرقع وسترت وجهها. وروى الخادمُ للنبي إسحَق كلّ ما جرى له، فأدخل إسحَق (عليه السّلام) رفقة إلى خباء أمِّه سارة وتزوّجها، وأحبّها. أمّا رفقة فقد كانت خير عزَاء بعد فقدان أُمِّه.

إرسال أبناء هاجر وقطورة إلى الشرق

وقبل وفاة النبي إبراهيم، قدّم لأبنائه من زوجتيه هاجر وقَطورة عطايا، ثمّ أرسلهم بعيدًا إلى البلاد التي تقع شرقًا، وجعل ابنه إسحق وريثه.

(وفاة إبراهيم (عليه السّلام

وعاش النبي إبراهيم مئة وخمسًا وسبعين سنة. ثمّ توفّي شيخا بحُسن الخاتمة وانضمّ إلى أسلافه الراحلين، فدفنه ابناهُ إسحَق وإسماعيل (عليهما السلام) في مغارة المَكفيلة قُرب مَمْرَا، في حقل عَفرون بن صوحَر الحثِّيّ، وهو الحقل الّذي دفن فيه النبي إبراهيم زوجته سارة، إذ اشتراه مِن الحِثّيّين. وبعد ذلك بارك الله إسحَق (عليه السّلام) الّذي عاد ليقيم عند بئر الحيّ البصير.