7

قصّة النبي أيّوب

مدخل إلى قصّة النبي أيّوب

تعتبر قصّة النّبي أيّوب (عليه السلام) من أهمّ القصص في تاريخ البشريّة. وهي قصّة تروي حكاية رجل تقيّ صالح ثريّ أصابته ابتلاءات جرّدته من صحّته ونسله وممتلكاته. وتحوّل الصبر الذي تحلّى به النبي أيّوب خلال هذه المحن مضرب أمثال إذ يقال صبر أيّوب. وعاش النبي أيّوب في بلاد عوص، التي تقع في الجهة الشمالية من شبه الجزيرة العربية، أي في ما يُعرف اليوم بدولة الأردن. ويتضمّن كتاب النبي أيّوب العديد من الكلمات والعادات التي تشبه بشكل كبير بعض الكلمات في اللغة العربية إضافة إلى العادات المنتشرة بين الشعب العربي. وتوضّح الترجمة القديمة لسفر أيّوب في اللغة اليونانية (أي الترجمة السبعينية) هذه العلاقة حيث تشير إلى أنّ زوجة النبي أيّوب كانت عربية. وفي هذه القصّة يستطيع القارئ أن يفهم أن ابتلاءات النبيّ أيّوب تحدث ضمن إطار قصّة كبرى، إذ يزعم الشيطان أنّ النّبي أيّوب لا يعبد الله إلاّ بسبب ما ناله من بركات الله وحمايته. أمّا الله فيؤكّد إخلاص عبده أيّوب له. واستجابة لما قاله الشيطان رفع الله حمايته عن النّبي أيّوب وسمح للشيطان أن يسلب ثرواته وأبناءه وصحّته بشرط ألاّ يقتله. ورغم كل ما عاناه النّبي أيّوب (عليه السلام) لم يلعن الله بل لعن يوم مولده. ومع أنّه عليه السلام تعذّب من حالته المريرة لكنّه لم يتّهم الله بالظلم. وجاء لمواساة النّبي أيّوب ثلاثة أصدقاء، ثم لحقهم شخص رابع، فحاولوا إقناعه بأنّه قد أذنب وهو يستحق كلّ المعاناة التي حلّت به. وقال أحدهم ويدعى بلداد، إنّ أبناء أيّوب لقوا حتفهم وزعم أنّهم مذنبون واستحقّوا العقاب. ويرد في مواطن عديدة في الكتاب المقدّس أنّ الأشرار يلقون عقابهم في هذه الدنيا، بينما ينال الصّالحون البركات. فمثلا جاءت آية في كتاب الأمثال تقول: ((لعنة الله تطارد بيوت الأشرار وبركاته تحلّ على بيوت الأبرار)) [كتاب الأمثال 3: 33]. ومن الجدير بالذكر أنّ إحدى المصائب التي أصابت النّبي أيّوب أنّ الشيطان ضربه ((بقروح مؤلمة غطّت جسمه من أسفل قدمه إلى قمّة رأسه)). وهذه المصيبة هي تحديدا ما توعّد الله به في التوراة عقابا لكلّ من يجحد وصاياه (سفر التثنية 28: 35). لهذا السبب أصرّ أصدقاء النّبي أيّوب على أنّه أذنب بحقّ الله لا ريب وينبغي أن يعترف بذنبه حتى يتخلّص من معاناته. ولكن النّبي أيّوب رفض نصائحهم وظلّ مصمّما على براءته، وطلب من الله معرفة سبب ما حلّ عليه من ابتلاءات. وفي نهاية القصّة تجلّى الله للنّبي أيّوب وأصدقائه في زوبعة ولكنّه تعالى لم يُجب على الأسئلة الرئيسية التي طرحها النّبي أيّوب. وبقي النّبي أيّوب صامتا وخضع لحكمة الله التي كانت تفوق إدراكه. وعاتب الله أصدقاء النّبي أيّوب الثلاثة وأمرهم أن يطلبوا من أيّوب أن يتشفّع لهم حتّى ينالوا المغفرة لجهلهم، ومن ثمّ أعاد الله أيّوب إلى شأنه الأوّل ورزقه سبعة بنين وسبع بنات. ويبدو من سفر النّبي أيّوب في الكتاب المقدّس أنّ النّبي أيّوب لم يكن على علم بتحدّي الشّيطان وكيف استجاب الله له. ولكنّ أيّوب (عليه السلام) اعتمد على حكمة الله، وجازاه الله على هذا الاعتماد. ونرى في سورة الأنبياء بخصوص النّبي أيّوب: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 84]. وتبيّن قصّة النّبي أيّوب أهميّة الاتّكال على الله حتّى في الظروف الوخيمة حين لا يمكننا أن نفهم مقصد الله ممّا نمرّ به، وحتّى عندما لا تنسجم ظروفنا مع ما ندركه من صفات الله وتعاليم كتابه تعالى، فالإدراك البشري لله محدود لا ريب، وينبغي علينا أن نتّكل على الله لا أن ندرك كلّ ما يفعله في الكون. لقد أصبح النّبي أيّوب قدوة للمؤمنين. وكتب الحواري يعقوب عن النّبي أيوب (عليه السلام): ((إخواني، اِقتَدوا بالأنبياءِ الّذينَ تَحَمَّلوا الضِّيقَ والعَذابَ مِنَ الأشرارِ حينَ أتوا برِسالةِ اللهِ، وكانوا في ذلِكَ مِنَ الصّابِرينَ! واصبِروا مِثلَهُم، فما أعظَمَ هَناءَ الصّابِرينَ! أما سَمِعتُم بصَبرِ النَّبيِّ أيُّوبَ رَغمَ ما واجَهَهُ مِن كَربٍ، وكَيفَ استَجابَ اللهُ لهُ في النِّهايةِ؟ لأنّ اللهَ بعِبادِهِ رَحمنٌ رَحيمٌ)) [رسالة الحواري يعقوب 5: 10 و11].

قصّة النبي أيّوب

الشيطان يحاول الإيقاع بالنبي أيّوب

كان النبي أيُّوب (عليه السّلام) يقطن في بلاد عُوص، وكان نزيهًا مستقيما بين الأنام، يخشى الله وينأى عن الآثام. وكان له ثلاث بنات وسبعة أبناء. وكان ذا مال وثراء: له سبعة آلاف رأس من الغنم، وعدد هائل من الخدم، وثلاثة آلاف من النوق والجمال، وخمس مئة زوج من البقر والثيران، وخمس مئة حمار وأتان. وكان أيّوب أعظم من في المشرق من الرجال.(٣) ودأب أبناء النّبي أيّوب على إقامة المآدب في بيوتهم، وكلّ واحد منهم له دور معلوم، وكانوا يستدعون أخواتهم الثلاثة فيكنّ معهم في حفلة مرحين. وأحيانًا تستغرق هذه الحفلات أيّاما، وعند انقضاء الاحتفال يدعو النبي أيّوب أبناءه في الصباح حتّى يشاركوه شعائر التطهّر، فيطلب من الله الغفران لهم، ويقدّم القرابين والأضاحي. وكان أيّوب حريصا على ذلك، لأنّه كان يخشى أن يذنب أحد أبنائه لهوا ويكفر بالله العظيم سهوًا. وأمر الله الملائكة في الملإ الأعلى أن يحضروا إليه، وأمر الشيطان أن يكون معهم بين يديه. وقال الله للشيطان وهو به عليم: “أخبرني مِن أين أتيت؟” فأجابه الشيطان: “كنتُ في أنحاء الأرض أجول وأدور، أترصّد ما يحدث فيها من أمور”. فسأله الله وهو العليم بما في الصدور: “هل رأت عيناك في العالمين عبدا كعبدي أيّوب نزيهٍ قويمٍ؟ إنّه لا نظير له بين الناس في التقوى، يخشى ربّه الكبير، وينأى عن الشرور”. فأجاب اللعين المغرور: “وهل يتّقي أيّوب مولاه بلا مقابل؟ ألست تقيم حوله جدارا يحميه، ويحمي أهله وبنيه، وكلّ ممتلكاته وأراضيه؟ لقد جعلتَهُ متألّقا في كلّ ما يأتيه! وملأتَ الأرض بمواشيه! وإنّي يا الله لعلى يقين، أنّك لو مسستَهُ بضرّ فيما يملك ليكفرنّ بوجهك الكريم!” وقال الله: “إنّك مسلّط على أيّوب، فألحق بما يملك الأذى، وإيّاك أن تمسّ جسده بالبلى”.(٤) ثمّ انسحب اللعين من الملإ الأعلى.

النبي أيّوب يخسر كل ما يملك

وكان أبناء النبي أيّوب وبناته في بيت ابنه الأكبر يحتفلون، وإذا بأحد خدمه يدخل على أيّوب ويخبره بواقعة جليلة: “يا مولاي، كنّا نحرث الحقول بالثيران وكانت الدواب ترعى على مقربة منّا، فإذا بنو سبإ يهاجموننا ويأخذونها ويقتلون بسيوفهم كلّ الفلاّحين والرّعاة، ونجوتُ أنا لأخبرك بهذه المأساة!” وما إن أنهى الأوّل كلامه حتّى أقبل خادم آخر وقال: “يا مولاي، إنّ الله أنزل صاعقة فأحرقت جميع الغنم وأحرقت الرّعاة، ونجوتُ أنا لأخبرك بهذه المأساة!” وما إن أكمل الثاني خبره حتّى أقبل خادم آخر وقال: “يا مولاي، غزتنا ثلاث عصابات من الكَلدانيّين، فنهبوا الجمال وقتلوا بسيوفهم الرّعاة، ونجوت أنا لأخبرك بهذه المأساة!” وما إن أنهى كلامه حتّى أقبل خادم آخر وقال: “يا مولاي، كان بنوك وبناتك في بيت أخيهم الأكبر يحتفلون، فهبّت عليهم عاصفة عنيفة من جهة الصحراء، فاجتاحتهم في البيت وتصدّعت الأركان، فسقطت عليهم الجدران، وفقد جميعهم الحياة، ونجوت أنا لأخبرك بهذه المأساة!” فشقّ النبي أيّوب ثوبه وحلق شعر رأسه من شدّة حزنه، وارتمى على الأرض خاشعًا ساجدًا لربّه، وقال: “عريانا من بطن أمي خرجت، وأرحل عن الدنيا وأنا عريان. الله الّذي أعطى وهو الّذي أخذ، يا نفسي كبّري وسبّحي الرحمن”.(٦) ورغم كلّ المصائب التي حلّت على أيّوب (عليه السّلام)، فإنّه ظلّ على تقواه، ولم يَنسب سوءا إلى مولاه.

الشيطان يحاول الإيقاع بالنبي أيّوب ثانية

ودعا الله الملائكة أن يكونوا في الملإ الأعلى ماثلين، وأمر الشيطان بالحضور. فسأل الله الشيطان وهو به عليم: “من أين أتيت؟” فأجابه الشيطان: “كنتُ في أنحاء الأرض أجول وأدور، وأترّصد كلّ ما يحدث فيها من أمور”. فسأله الله مرّة أخرى: “ماذا رأيت في أيّوب عبدي؟ فلا نظير له في الأرض نزاهة وتقوى، إنّه يخشى الله ربّه وينأى عن الشرور، إنّه بتقواه متمسّك لا يلين، مع أنّك ألححتَ عليّ دون سبب أن أسمح لك بأن تصيبه بالأذى”. فأجاب الشيطان: “إنّه عن تقواه لربّه لا يحيد، لأنّه لم يُبتلَ في جسده، فالمرء يضحّي بكلّ عزيز حتى يحفظ حياته! فأنزلِ البلاءَ على جسمه، وسترى أنّه لن يظل تقيّا، وأنّه سيكفر بك أمام العالمين!” فقال الله للشيطان: “إنّا جعلنا لك عليه سطوةً، فافعل بجسده ما تريد من البلاء، ولكن إيّاك أن يصيبه على يديك الفناء”. وانسلّ الشيطان من الملإ الأعلى، وضرب النبي أيّوب بالقروح، فغطّت كامل جسمه من أسفل قدمه إلى قمّة رأسه الجروح. ودفعه ألمه حتى جلس في الرّماد وأخذ يَحُكّ ببعض الخزف تلك القروح لعلّ ذلك يخفّف وجع ما فيه من جروح. فقالت له زوجته: “يا أيّوب، أما ترى ما أصابك من البلاء، أما زلت تدعو الله وتتّقيه؟ اكفر به ومت لعلّك تستريح!” إلاّ أنّ أيّوب (عليه السّلام) قاطع كلامها وقال: “اسكتي! إنّ ما تنطقين به لهو الجهل الصريح! أنقبل من الله الخيرات والعطايا، ولا نقبل منه إن أرسل علينا البلايا؟” وكان أيّوب للّه تقيّا، وعلى بلائه صبورا، ونزّه اللهَ أن يكون بما أنزله عليه ظالما أو شرّيرا.

أصدقاء النبي أيّوب يزورونه

وكان للنبي أيّوب ثلاثة أصدقاء وهم: أليفاز التّيمانيّ وبِلداد الشّوحيّوصوفَر النّعماتيّ. ولمّا سمعوا بما أنزل على صديقهم من بلاء وعذاب، عزموا على زيارته ليواسوه. ولمّا من بعيد أبصروه، كادوا ألاّ يعرفوه، فبكوا وشقّ كلٌّ منهم ثوبه، وفوق رؤوسهم ذرّوا التراب. ثمّ جلسوا أرضًا إلى جانبه (عليه السّلام) سبعةَ أيّام بلياليها صامتين لما رأوه من هول المصاب.

شكوى النبي أيّوب

ثمّ تكلّم النبيّ أيّوبُ (عليه السلام) أخيرا ولعن اليوم الّذي فيه وُلِد.(١) وأنشد: “يا ليت يوم مولدي معدوم، وليتني هلكت في ميلادي، وليلة تكوّني المشؤوم مظلمة بغير نور ينادي! يا ليتني أمحوه، آه ليتني، ليلٌ يطبقه ظلام حالك السوادِ. يا ليتني في لحظة خروجي، خرجت ميتا فما كان ميلادي! لو لم يكن لكُنتُ في رحاب السلامِ، أهنأ في السّكون والرقادِ، في صحبة الملوك والعظام، بعد ما حال كلّ ما شيّدوه إلى الرمادِ. لا فرق في الأموات، بين الصغير والكبير، والعبد حين يسكن القبور، ينفكّ من تجبّر الأسيادِ. هلاّ يموت كلّ من ينتظر الردى، فالموت كنز للمعذّبين في الورى، وفيه يلقون الفرح والسعادة. الفرحون بالفناء يرون فيه بهجة المرادِ. لكنّني في تعبي وضيقي، لا أعرف الراحة منكسر الفؤادِ”.(٢)

ردّ أليفاز الأوّل على النبي أيّوب

وهنا بادر أليفاز التّيمانيّ وقال للنبي أيوب: “أتصبر على قولي ونصحي؟ لأنّي أعجز عن كتم بَوحي! كثيرون كنتَ لهم مرشدا، كثيرون قوّيتهم يا أيّوب. وأرشدتَ من ضلّ منهم بعيدا، كثيرون أبعدتَهم عن حضيض التراب! فكيف تئنّ الآن لهول البلاء، وتنهار حين يمسّك سوء العذاب؟ أنت التقيّ القويّ. إنّ الأمر هيّن، توكّل على الله وادعه، وإنّ ربّك لمُجيبٌ للدّعاء! كيف لبريء أن يلقى البلاء والعذاب!؟ وكيف لنزيه أن يموت كالخاسرين؟ لقد علّمَتْني الحياة بأنّ الّذين لآثامهم يبذرون، والشقاء يغرسون، سيجنون إثما وشقاء إذا أقبلوا يحصدون. سيفنيهم الله كلّ الفناء بنفخة ريح البلاء، ويعصفهم بلظى غضب حارق ويهلكهم، إنّهم لهالكون. هل الإنسانُ محميّ من الآثام، هل المخلوق أمام ربّه معصوم؟ ألستَ ترى أنّ الله لا يأتمن ملائكة السماء، ويعاتب رسله على الأخطاء، فكيف حال البشر الذين خلقهم من طينٍ وماء، أولئك الّذين حياتهم هباء في هباء؟ ألا ينالون كما العثّ الفناء؟ يجلب الإنسان لنفسه الشقاء، ذاك أمر محتّم من القضاء، كالطيور التي خُلقت لتطير. لو أني ابتليت مثلك لدعوت في خشوع ورضى الله القدير، ورفعتُ إليه تعالى كلّ الأمور. إنّ الله لذو آيات ونعم على العالمين، ومعجزاته لا تحدّ ولا تعدّ! هو الذي يغيث الأرض بالأمطار، ويسكب على الحقول الماء المدرار. يرفع المستضعفين إلى المراتب العُلى، وينصر النائحين البؤساء. إنّه رجاء العزّة لكلّ من يحيى في احتقار، يكسر أنياب كلّ شرّير جبّار، فهنيئا لمن يعاتبه اللهُ العظيم! يا أيّوب، ارضَ بما كتبه عليك القوّيّ المتين! إنّ الله هو النافع الضار، المنتقم الشافي المعافي.”

النبي أيّوب يردّ على أليفاز

فأجاب أيّوب (عليه السلام): لو وضعتم ما أصابني في كفّة الميزان، لرجحَتْ على رمال البحر، فاعذر اندفاعي في الهذيان! يا ليت الله يستجيب لدعائي، ويحقّق رجائي، يا ليته يدمّرني ويمزّقني أشلاء أشلاء، عندها فقط يأتي فرحي وعزائي، رغم مصائبي وابتلائي. إني ما جحدت كلام القدّوس الرحمن. حقّا إنّي منهكٌ وخارت قواي، وعجزت عن القيام بشؤوني، حقّا لا وليّ لي الآن ولا نصير. وإن زاغ تعيس مثلي عن تقوى الله، ألا يكون في حاجة إلى معروف من الأصدقاء؟ وأنتم أيّها الإخوان متقلّبون، فأنتم لحظة المسرّات كوادٍ يفيض في الشتاء، ولحظة الضيق أنتم كوادٍ جفّ في البيداء. أرشدوني إلى الصواب فأكتفي به. أروني أين كان ضلالي وتقصيري! ما أقسى قول الحقّ، ولكنّ لومكم خاوٍ من الحق، بل إنّه هباء.”

النبي أيّوب يستغيث الله

“ألا إنّي عليل سقيم، ومن جلدي تنفجر القروح كالسموم، والدود على جسمي كالغطاء. يا ربّ، حياتي نفخة هيّنة، وعيوني لن ترى بعد الآن الخير المرتجى. فإن أخطأتُ فما ظلمتُك أيّها الرقيب على البشرية جمعاء. لم أنزلت عليّ سخطك فصرت عاجزا حتّى عن حمل نفسي؟”

ردّ بلداد على النبي أيّوب

فجاءه جواب بلداد الشّوحي: “هلاّ كففتَ عن هذا الكلام؟ إنّ أقوالك كالريح العاصف! أيكون الله جائرا؟ أينحرف الحَكَم العادل عن الحقّ الكاشف؟ لا ريب أن أبناءك خطّاؤون جاحدون فأنزل عليهم العقاب القاصف! فإنْ تُبتَ وطلبتَ وجه القدير وخضعت لمشيئته، وصرتَ النقيّ الطاهر، فالله يتوب عليك لا ريب، ويعيدك إلى مقامك السالف. وإيّاك إيّاك أن تجحد بالله الجليل، إنّ من يجحد به يفتح على نفسه أبواب الفناء التالف، كالنبات الذي يصيبه الذبول، قبل أوان قطافه المأمول.”

النبي أيّوب يرفع شكواه إلى الله

قال أيّوب (عليه السلام): “سئمتُ الحياة، ورفعتُ إليك بكلّ ما في نفسي من مرارة الكلام. أنت يا ربّ صوّرتَني، وبيدك صنعت جسمي بالتّمام. إنّك الآن تسحقني وتحوّلني إلى حطام. فكنت جنينا، وفي بطن أمّي كالجبن أتى من حليب الأنعامِ، كسوتَ إهابي ولحمي بفيض عطائك وصيّرتني كتلة من عصب وعظام. رحمة منك وهبتني الحياة، وأمّنت روحي بكلّ حنانِ. فإن كنتُ يا ربّ ضيّعتُ حقّك بالذّنب، فويلي ثُمّ ويلي! وإنّي يا ربّ بريء، ورغم ذلك لا أستطيع أن أرفع رأسي من الذلّ، فكيف أرفعه من ثقيل الهوان؟ أنت كنت رقيبي، فإن أخطأتُ فعلا، فبعقابك أرضى جزاء هذا العصيان!”

صوفر يردّ على النبي أيّوب

فأجابه صوفَر النّعماتيّ: “أتدرك أسرار الله؟ هل يبلغ علمك عظمة ربّ البرايا؟ إنّ أسرار الله أبعد من السماء، فلن تلمس لها مدارا، وهي أعمق من القبر، فلن تبلغ لها قرارا! وسعَتْ حكمته البرّ والبحر وما فيهما من أكوان. فإن تبتَ إلى الله، اطمئن قلبك لما فيه من يقين، ونعمتَ بسلام وأمان. حينها تستريح في أمان الموقنين، وما أكثر عندئذ الذين على عونك يقبلون.”

ردّ النبي أيّوب على صوفر

وانبرى أيّوب (عليه السلام) قائلا: “كيف تحسبون أنكم من العظماء، وأن الحكمة تفنى يوم ترحلون؟ ولستُ أدنى منكم إنّي مثلكم أفهم ما تأتون. والكلّ يدرك ما تقولون! إني عبد الله بريء نزيه، ولكنّ أصحابي منّي يسخرون. إنّ المطمئنّين للمبتلى محتقرون، ويحسبون أنّ بلاءه له جزاء، ألا ساء ما يزعمون. فكلّ اللّصوص مطمئنّون، ومن يغيظون الله يهنئون، وكأنّ أيديهم فوق يد الله، هذا ما يدّعون! فاسألوا الأنعام وطيور السماء، واسألوا أسماك البحر، كلّ سيخبرك بالحقّ المبين. إنّ الله بيده أرواح المخلوقين، وإنّها تعلم علم اليقين، أنّ الله خالق العالمين.

ردّ أليفاز الثاني على النبي أيّوب

فقال أليفاز: “عذاب هي كل أيام الأشرار، وللطغاة سنوات قصار. تملأ آذانهم رهيب الأصوات، يخشون، في زمن السّلم، الهجمات والغزوات. لا نجاة لهم من الظلمات، بالسيف يموت كلّ جبّار. وتنهش جسده النسور والأطيار. إنّه على يقين أن يومه العصيب أوانه قريب. لذلك تلفّه الغموم والشجون، كأنّه يرقب في ارتعاشة المهزوم، طاغية آخر يعلن عليه الهجوم. لأنّه أعلن الكفر وعصى الله القويّ المتين، وتحدّى الله الجبّار العظيم. قد بادر الشرّير الله بالتكبّر، ورفع في وجهه أسلحة قويّة. رغم أنّ جسمه بالشحم مكتنز مترهّل، يعجز عن الحركة الفتيّة، سيحلّ بمدن المتكبّرين الخراب، فيأوون إلى بيوت مآلها التراب. أموالهم تفنى وثرواتهم إلى البلى، وآثارهم تمحى ويلحقهم النسيان. لا نجاة لهم من ظلمات الردى، كأنّهم شجرة يأكلها اللهيب والدخان، يهلكهم الجبّار بنفخة من اللظى.”

ردّ النبي أيّوب على أليفاز

“كثيرا ما سمعتُ منكم هذا الكلام، وإنّكم تعزّونني ولكنّكم تتعبونني! ألا تنتهون من هذا الكلام السقيم، لماذا تثرثرون؟ لو أنّكم ابتليتم مثلي لما قلتُ ما تقولون! وما نمّقتُ حديثي وما سخرتُ كما تسخرون. بل شدّدتُ من عزمكم وخفّفتُ من حزنكم، ولكن أوّاه أوّاه كآبتي لا تزول، إن تكلمتُ أو تركت الفضول. إنّي ألبس الخيش حزينا، وأجلس على التراب مقهورا مهينا. احمرَّتْ من البكاء عيناي، وأحيطتْ بالسّواد جفناي، وما ارتكبَتْ ظلما يداي، وما رأيتُ في صلاتي شوبا مشينا. فإن هلكتُ، فلا تستري يا أرض مصابي، ولا تكتمي من أجل العدل نحيبي وعذابي! إنّ لي شاهدا في عُلاه، ولي من يحميني في أعالي سماه. وليت أصحابي من أجلي يشفعون، إنّي بالله أستعين، وعيناي تذرفان الدمع السخين. ليت لي عند الله شفيعا، يدعو لي كما يدعو الخليل لخليله.”

النبي أيّوب يطلب الإنصاف من الله

“ربّ أنصفني، إنّي بريء، وانصرني فليس لي من دونك نصير، إنّهم منّي يسخرون وعلى وجهي يبصقون لأنّك أنزلت عليّ البلاء النكير. إن جسمي هزيل، وتورّمت عيناي من البكاء المرير!”

بلداد يردّ على أيّوب مرّة ثانية

فأتاه جواب بلداد الشوحيّ: “حتّام هذا الكلام والنّكير؟ تعقَّلْ يا أيّوب قبل أن ينطلق منك اللسان! لم ترانا بهائم لا تعي وأغبياء لا يفقهون؟ كلّ يلقى جزاء ما اقترفت اليدان، وأهل الشرّ كالمصباح ينطفئون. إنّ بيوتهم كانت تشعّ نورا، وها أنّ نورهم ظلام في ظلام. إنّ كلّ النّاس من الشرق إلى الغرب من مصير أهل الشرّ يرتعبون، وفي خوفهم يرتجفون. نعم، هو ذاك مصير الآثمين، ومآل الذين بالله لا يكترثون”.

النبي أيّوب يردّ على بلداد

فردّ عليه أيّوب (عليه السلام): “إلى متى يا قوم تعذّبونني؟ وبهذا الكلام المؤلم تسحقونني؟ فلئن ضللتُ فهذا شأني، وإن رغبتم فاعتزلوني. إنّكم عليّ تتكبّرون، وتقولون إنّ ما أعانيه من الآلام، دليل على آثامي. إنّ الله ابتلاني، وألقى حياتي في حبال البلايا، ها أنا أصرخ من الضرّ الذي مسّني،(٦) ولا سميع ولا مجيب، وأطلب العون ولا نصير ولا قريب! أبعد الله عنّي إخواني وهجرني معارفي وأقراني، أهلي تركوني وتخلّى الأصحاب عني. أدعو خادمي فلا يعير جوابا، أنهك الهزال جسمي، إني على يقين أنّ شفيعي حيّ لا يدركه الفناء، فإن أصاب جلدي الرّدى وحلّ به البلاء، فإن جسمي سيرى الله القدّوس، وإنّ شوقا عميقا يأخذني إلى هذا اللقاء حيث أنعم برؤية الله.”

صوفر يردّ على النبي أيّوب مرّة ثانية

وقال صوفَر النِّعماتيّ: “يا أيّوب، قد دفعني كلامك إلى الضيق، ولا بدّ أن أجيب! لحقني من لومك ما أهانني، فأسمعتك بالردّ القريب، إنّك لا ريب تعلم علم اليقين أنّ ربّهم يُطعم الأشرار شديد العقاب، وفي بطونهم يأكلون نار العذاب. إنّ هذا مصير الآثمين، والمآل الذي قدّره الله القويّ المتين.”

النبي أيّوب يردّ على صوفر

أجاب أيّوب (عليه السلام): “اصغو إليّ، فسماعكم إلى ما أقول يعزّيني. حين أذكر مصابي يأخذني الخوف وترتعد أطرافي. لماذا يعيش الآثمون حتى يغزوهم الشيب ويشيخوا، ومع الأيّام قوّة يزدادون؟ ويفرحون بأولادهم وهم يكبرون، ونسلهم يمتدّ فتسرّ العيون. بيوتهم آمنة وهم من ضربات الله مبعدون. في خير يعيشون وبكرامة يُدفنون، ويمشي في جنازاتهم جمع من الناس غفير، وعند الدفن ما أكثر الحاضرين! فكيف إيّاي تعزّون بكلام عقيم؟ ما قولكم إلاّ كذب مبين!”

أليفاز يجادل أيّوب مرّة ثالثة

فقال أليفاز التّيمانيّ: “أتحسب أنّ الله يحتاج عباده؟ ما نفع الحكيم إلاّ نفسه! إن الله غنيّ عن العالمين! كلاّ! إنّ الشر الذي اقترفتَهُ قد ارتفع وطغى، وذنوبك بلغت عنان السماء! أتراك يا أيّوب، أخذتَ من الفقير ثيابه عن دَين حان تسديده وأتى، فتركتَهُ عاريا بين الورى؟ أو حَرمتَ العطشان من الماء، والجائع من رغيفك المحلّى، أو ظننت أنّ لك أن تأخذ الأرض غصبا، وتحتلّها تكبّرا ورهبا؟ كأنّي بك قد صرفتَ الأرامل دامعات، وسحقت في اليتامى الأمنيات. لكلّ ذلك أنت في الشرك والقيود، تفاجئك المصائب والخطر الشديد! إنّك في الظلام والعمى، قد غمرتك البلايا كسيول الماء. سبحان الله المجيد، إنّه على أبعد الأفلاك رقيب عتيد غير أنّك قد زعمتَ أنّ الله عنّا في حجاب، وفي عليائه لا يرى! فكيف له أن يديننا؟ وما يفصله عنا كثيف السّحاب، وأنّه في أقاصي السماء استوى. يا أيّوب، أَسلِمْ أمرك لله، وكن من الموقنين، يأتِك الفلاح والسلام. يا أيّوب اتّبع هداه، وفي قلبك كن لشرعه من الحافظين. فإن تُبتَ عن آثامك إلى الجبّار المتين، وأبعدتَ الفساد عنك تكُ من المفلحين، أبعد عنك شهوة الذهب، بل ارمِه في اليمّ العميق. واجعل الله الجبّار كنزك الذي لا يُرى، فهو أعلى من الذهب والفضّة وأبهى! فلينشرح قلبك بالعليّ الجبّار، وارفعْ إليه وجهك في عزّة واقتدار. وتضرّعْ إليه إنّه المجيب يسمع ويرى. وأوف له ما نذرت من النذور. فلا ريب، عندئذ، أنّ الله يوفّقك لما تحبّ وترضى، ويشرق على كلّ دروبك النور.”

بلداد يردّ على أيّوب للمرّة الثالثة

فقال بِلداد الشّوحيّ: “لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العزيز الجليل، مدبّر الأمر في علاه” فكيف يحظى الإنسان برضى الله الجميل، ويصبح طاهرا من ذنوبه وخطاياه؟”

النبي أيّوب يدافع عن نفسه للمرّة الأخيرة

فقال أيّوب (عليه السلام): “أين الحكمة؟ ترى أين يحظى بها الإنسان ويلقاها؟ وكيف يدرك فهمها ويراها؟ هل تظنّون أنّ للحكمة ثمنا يحدّها؟ إنّما هي في خشية الله العظيم، وفي اعتزال الشرّ وترك حبائل الأثيم. ينتابني لأيّامي الخالية الحنين، والله يرعاني إنّه بي رحيم. فعندما سرتُ في طريقي ما همّني الظلام، فنور ربّي كان رفيقي الكريم، فمضيتُ في صراطه المستقيم. فإن حدتُ عن سبيل الخير والبهاء، ولوّثت يداي بالآثام والعيوب، فليكن جزائي أن أزرع الدروب والحقول، ويأكل العباد ما جمعتُ من محصول! يا ربّ هل تسمعني؟ يا ليتك تسمع شكواي، وتعلن براءتي علم اليقين! وإن أعلنتَ براءتي، فسأضعها على رأسي كتاجٍ مستديم! يا قوم إنّكم لي منكرون، تزعمون أنّي أتيتُ الخطايا والذنوب! أفلا تدلّونني عليها حتى عنها أتوب؟”

تدخّل الفتى أليهو

وتوقّف الرّجال عن جدال النبي أيّوب إذ كان على يقين من أنّه بريء من الذنوب. فغضب منه من بين الحضور فتى اسمه أليهو البوزيّ الغضب العظيم، لأنّه امتنع عن الاعتراف بخطاياه، وأنّ ربّ العالمين محقّ حين بالعقاب يلقاه. واستشاط على أصحاب أيّوب، إذ عجزوا عن إفحامه بشتّى الأساليب، وأخطأوا حين اتّهموه. والتزم الفتى أليهو الصمت بينما كان القوم يتجادلون -فهو أصغرهم سنّا- والصغير ينصت للمسنّين. ولكنّه اهتزّ غضبا، حين رأى رفاق أيّوب يعجزون عن إقناعه بإثمه المبين. وقال: “أنا أصغركم سنّا، لذلك بقيتُ صامتا، تقديرا لمكانتكم وتبجيلا. لأنّي ظننتُ أن الحكمة تصدر عمّن عمّر طويلا. ولكن الحكمة ليست حكرا على المسنّين. أَوليتُكم انتباهي، فرأيت أنّكم عن إفحام أيّوب مردودون وعن ردّ حججه عاجزون! ولكني لن أجادله بأسلوبكم، ولن أردّ عليه بحججكم الواهية. لن أراعي في الردّ أي إنسان، أجل، لن أتملّق ذا نفس فانية!”

أليهو يجادل النبي أيّوب

“يا أيّوب، أنتَ قُلتَ إنّك نقيّ ومن كلّ ذنب بريء، طاهر من الآثام، بل زعمتَ أنّ الله اتّخذك عدوّا من بين الأنام. ولكنّك مخطئ في ما تقول! ألستَ تعلم أنّ الله أعظم من الإنسان؟ لماذا تشكو ربّك وتُردّد بين النّاس: “الله لا يسمعني، ولا يستجيب لدعائي، إنّي أشعر بالخذلان”. إن الله يخاطبنا مرّة تلو الأخرى، ولكن الناس عن كلامه غافلون. أمّا الإنسان إذا تاب ودعا ربّه، فيتقبّله ويرضى عنه ويعيده إلى مقام الصالحين. إنّ الله عليّ كبير، لكنّه لا يهمل الضعيف، فيا لجبروته العظيم، ويا له من خالق حكيم رحيم! يكسر شوكة الأشرار، وينصف المستضعفين. يرعى الصِّدِّيقين، ويجعلهم مع الملوك إلى الأبد يعتلون. فإذا وقع بعض الناس في البلاء المبين، وقُيّدوا بالحبال وصاروا أذلاّء صاغرين، يخبرهم ربّهم بما ارتكبوه، وبجحودهم في حقّه وبما أذنبوه. يحذّرهم فإذا هم سامعون، وينبّههم فإذا هم عن الإثم تائبون. فإن أصغوا إلى ربّهم وأَطاعوه، قضوا أيّامهم في النعيم، وطالت أعمارهم في فلاح كريم. فإن هم عصوا ربّهم وتحدّوه، هلكوا بحدّ السّيف، وكانوا أثَمَةً جاهلين. إنّ الله يبتلي الناس بالضيق حتّى تتفتّح أبصارهم، فيتوبوا إليه منصتين. إنّ الله القويّ المتين، لا تدرك الله التصوّرات ولا الأفكار، وما هو للعبيد بظلاّم أو قهّار. فلا عجب أن يهابه البشر الفانون، أو يلمح جلاله كلّ الحكماء المتبصّرين.”

الله يعاتب نبيّه أيّوب

وفي عاصفة هوجاء جاء القول الفصل من الله الجليل، واستجاب لنبيّه أيّوب العليل: “كيف يشكّ أحدكم في مقصدي، كيف تقولون كلاما جاهلا جاحدا؟ فتشجّع وشدّ عزيمتك! وأجب عن سؤالي: هل كنتَ موجودا حين وضعتُ للأرض أسسا وحدودا؟ أخبرني إن كنتَ على ذلك شهيدا! أتدرك من قرّر للأرض طولا وعرضا، ومن وضع للأرض مقاييسها تحديدا؟ ما أساس قواعدها، ومَن أقام حجر زاويتها؟ فغنّت كواكب الصبح الصريح، وهتفت الملائكة فرحين، بالكلام الفصيح. أتعلم مصدر النّور والدّيجور؟ هل تظنّ أنّك بكلّ هذه الأمور عليم؟ هل تراك ولدت قبل خلقها؟ هل أنت العليم الخبير؟!”

النبي أيّوب يخضع لله

وقال الله العليّ القدير: “أنا الله القويّ الجبّار، أتراه يفلح من يجادل العظيم القهّار؟ أجب أيّها المشتكي! تكلّم يا من يعترض على حكم المتين الجبّار!” فقال النبي أيّوب: “وكيف أجيب وأنا يا ربّ عبدك الضعيف؟ وإنّي لأمتنع عن الكلام منذ الآن ولن أضيف. إنّ قولي ليقينٌ، ولا فائدة ترجى من هذا الكلام العقيم.” وأوحى الله إلى النبي أيّوب وحيا جديدا في عاصفة هوجاء: “تشجّع يا أيّوب وكن شديدا! وإنّي سائلك فلتجب جوابا مفيدا. هل تراني غير عادل ظلوما؟ أم تريد أن تنقُض حُكمي فتبدو صاحب حقّ؟ أتحسب أنّك في قوّة القويّ العتيد؟ وأنّ صوتك كصوت الله يُرعد كالرعود؟ فتحلّى يا أيّوب بحُلّة العزّة والبهاء، وتزيّن بالإكرام والجلال! أخرج ما بداخلك من غضبٍ وشحناء، والقه على كواهل المتكبّرين. انظر إلى المتغطرسين وأذلّ رقابهم، وحَطِّم الأشرار حيث يقفون! اطمِرْهم في التّراب جميعا، واحبسهم في دركات الموت والفناء. فإن قدرتَ على هذا فأنت القويّ المتين، قادر على إنصاف نفسك من كلّ ابتلاء!” فأجاب النبي أيّوب في خشوع: “أعرف يا ربّ أَنّك المولى القدير، ولا يعجزك أمر العباد. سألتني يا ربّ هل يشكّ العبد في أنّ ربّه حكيم، وأنّ مقاصده من علمه المكين، فيرسل كلاما من الإدراك خاليا. نعم يا ربّ تكلّمتُ عن أمر صعب المنال، وقلت يا ربّ: إنّي سائلك فامنحني جوابا عن سؤالي. كنتُ أسمعك بأذنيّ فيما مضى، وها أنا الآن أرى جلال تجلّيك للورى. وها نفسي أضعها أمامك، وها أنّي أفترش التراب والرماد!”

الله يعاتب أصدقاء أيّوب الثلاثة

ثمّ بعد أن أوحى الله إلى أيوب ما أوحى، نزل عتاب ربّ السّماء على أليفاز: “إنّي عليك وعلى رفيقيك ساخط غاضب، إنّ ما قلتموه عنّي غير صائب، وإنّ عبدي أيّوب لذو رأي سديد. والآن خُذوا قرابين سبعة ثيرانٍ وسبعة كباش، واقصدوا عبدي أيّوب واجعلوها قربانًا تكفّرون به عن ذنبكم العظيم. وسيتضرّع أَيّوب بالدعاء الرشيد، ولأجله أعفو عنكم، إنّكم بما قلتم من الباطل حمقى أغبياء، ولم تنبسوا بالحكمة كما فعل أيّوب حين أصابه البلاء”. وفعل أليفاز التّيمانيّ وبِلداد الشّوحيّ وصُوفَر النِّعماتيّ ما أمرهم الله به، فاستجاب الله لطلب النّبيّ أيّوب، وأنزل عليهم العفو والرّضى. وحين فرغ النبي أيّوب من الدعاء، أعاد الله عليه جاهه، ومكانته وضاعف له أملاكه التي امتلكها قبل نزول القضاء.

الله يعيد للنبي أيّوب شأنه

ثمّ أقام النبي أيّوب وليمة لكلّ إخوته وأخواته وكلّ معارفه السابقين. فأكلوا معه في داره وعزّوه وعن كلّ البلايا الّتي أنزلها اللهُ به واسوه. وأهدى له كلّ واحدٍ منهم قطعة من الفضّة وخاتمًا من ذهب. وبارك الله النبي أيّوب وهو شيخ وأعطاه ما لم يعطه في أوّل حياته. فكان له أربعة عشر ألف خروف، وستّة آلاف جمل، وألف زوج من البقر، وألف أتان. ورزقه الله سبعة بنين وثلاث بنات، وسمّى الأولى يَمامة، والثّانية قِرفة، والثّالثة كَحلاء. وكانت بناته أجمل النساء، ووهبهنّ أبوهُنّ نصيبا من الإرث كما أورث إخوتهنّ من العطاء. وعاش أيّوب (عليه السلام) من بعد الابتلاء مئة وأربعين سنة، رأى فيها أبناءه وأحفاده إلى الجيل الرّابع. ثمّ توفّى النبي أيّوب (عليه السلام) شيخا متنعّما ذاكرا لله، ويا له من حسن الختام.